الإعجاز العلمي في القرآن... خروج من دائرة الإيمان

الإعجاز العلمي في القرآن... خروج من دائرة الإيمان
الرابط المختصر

عادة ما يدور خلاف بين من يدافعون عن القرآن الكريم بوصفه شاملاً لكل مشاكل الحياة وبين الذين يرونه كتاباً مقدساً لتفسير مصائر الإنسان ما بعد الموت وما عجز عن تفسيره عقله، وهناك فريق ثالث لا يرى أنه كتاب إلهي بل هو إنتاج بشري تراكم عبر الزمن. ويحاول الفريق الأول البحث في القرآن وتأويله حسب منتطلبات العصر، ليجدوا فيه كل ما توصل له الإنسان بجهده المتراكم فكلما ظهر جديد قالوا: هذا مذكور في القرآن من قبل، وذلك نابع من حبهم للقرآن وحرصهم على إثبات صحته.

لا بأس بكل المقولات التي يدافع بها أصحاب نظرية شمولية القرآن إذا كانت نتيجة الحرص على إثبات ألوهيته، أي أن جعل القرآن كتاباً في الاجتماع والعلوم والهندسة والطب والفلك والجغرافيا والحساب يزيد من الأدلة على أنه كتاب من الله وليس من محمد، رداً على من يقول إنه منتج بشري. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة الماضية دعوات وتفسيرات خاصة تشير إلى أن في القرآن مظاهر إعجاز علمي، وأن هناك آيات فيه تؤكد ما توصل له العلماء في اكتشافاتهم العلمية.

الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن أيضاً مختلف فيه بين من يثبته ومن ينكره، ويدافع الفريق الأول دفاعاً مستميتاً عن هذه الفرضية بوصفها دعما لموقفهم القائل بأن القرآن وحي من الله في وجه من ينكرون ذلك كما ذكرنا سابقاً، لكن المتحمسين للفكرة قد يمارسون عملية تشكيك ممنهجة من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وذلك أن صحة القرآن وعدمها لا تقوم على فرضية علمية بحتة، بل تقوم على الإيمان والتصديق بأن هذا القرآن وحي من الله، ولن يكون هذا التصديق كاملاً إلا إذا صدقنا أن محمداً رسول من الله، وأنه ينقل بصدق ما يعلمه الله له، وهو ما يسمى الإيمان الذي يعني التصديق الجازم بكل ما جاء عن الله عبر الوحي وببلاغ من النبي، وأن أي شك أو تشكيك في ذلك يخرج الإنسان من دائرة الإيمان، فهو يقوم على الحقيقة المطلقة التي لا يمكن دحضها أو إبطالها.

أما القول بوجود فرضيات علمية في القرآن فإن ذلك يخرجه من دائرة الإيمان إلى دائرة العلم الذي يقوم على الفرضية والتجريب والإثبات، وأي نظرية علمية هي محل للنقض والدحض والإبطال، فهو يقوم على الشك الدائم والسؤال المستمر. ومن جهة أخرى فإن الإيمان مصدره الدين المحكوم بنص إلهي – لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- مقدس، والنقاش أو الحوار في صحته يعد من المحرمات والممنوعات، أما العلم فهو محكوم لتأملات الإنسان في الطبيعة والكون، وهو نظر اجتهادي قد يكون خاطئاً ومتغيراً أيضاً. كما أن الإيمان حقائق ثابتة لا يسري عليها قانون الزمن، ولا تحتكم لقوانين النقص والتغير باختلاف الزمان والإنسان، أما العلم فهو منتج إنساني، محكوم كما الإنسان لقوانين الزمان ومعطيات الواقع وقوانين النقص والتغير. والإيمان الذي مرجعه الدين هو مقولات ثابتة لا يعتريها النقص ولا يحوزها المكان ولا يجوزها الزمان، فهي محكومة لنص محكم لا يحق لنا إلا تصديقه حتى لو تعارض مع المنطق والعقل، إذ يحكم حينئذ على العقل بأنه قاصر عن إدراك حكمة الخالق في فروضه وواجباته، فالنتيجة محسومة لصالح الحكم الإلهي مهما كانت قناعات العقل الإنساني بها قوية، أما العلم فهو خاضع للمساءلة والترجيح والمراجعة والتصحيح.

هل يريد أصحاب الإعجاز العلمي إخضاع القرآن لمنطق العلم؟ أي إخراجه من شروط الإيمان إلى شروط العلم؟ إذا كان هدفهم ذلك – عن قصد أو عن غير قصد- فإنهم بذلك يدخلونه في دائرة الشك العلمي المحكوم للزمن والأدوات المتاحة وقدرات الإنسان، ويخرجونه من دائرة اليقين المحكوم للإيمان والتصديق. فهل لديهم شك في صحة القرآن وصدق محمد بما نقله عن ربه؟ لأنه ليس لدينا أي دليل علمي على أن هذا القرآن من الله إلا أننا صدقنا محمداً وبكل ما جاء به، على قاعدة (إن قالها فقد صدق).

وأدعي هنا أن دعاة الإعجاز العلمي ليس لهم أي هدف آخر غير إثبات صحة القرآن لأننا لم نجد أياً ممن يقول بالإعجاز العلمي ومتخصص به قد اكتشف نظرية علمية قبل أن يكتشفها علماء الطبيعة خارج النص القرآني، وكل المقولات الخاصة بهذا الإعجاز تأتي لتثبت أن القرآن صحيح لأنه يوافق ما اكتشفه العلماء، أي أن القرآن تابع للعلم وليس العكس، فيصبح العلم هو المهيمن وذلك يتناقض مع ما يقرره القرآن بأنه هو المهيمن لأنه من لدن حكيم خبير.

إن مشكلة الإعجاز في القرآن هي قضية إيمانية لا تحتاج إلى إثباتات علمية، فحتى علماء البلاغة سابقاً بعد أن بحثوا في إعجاز القرآن أجمع كثير منهم على أنه معجز بـ"الصرفة"، أي أن الله صرف الناس عن الإتيان بمثله، ولم يطمئنوا لأي تفسيرات أخرى في إثبات معجزته، فبعد بحث طويل عادوا للتفسير الإيماني والتأويل الغيبي.

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.