الإصلاح.. ببساطة!

الإصلاح.. ببساطة!
الرابط المختصر

عندما يدور الحديث عن وضع الأردن والإصلاح، فإننا غالباً ما نضيع في متاهات الأرقام والعبارات التقنية والتجريدات المربكة. وأصل الأمور أن يكون همّ المواطن، ومسعى المسؤول المخلص، هو أن تتحسّن أحوال الناس القريبة، فتتحسّن حالة بلدنا تلقائياً.

لا شك أن الأردن يقاسي من ندرة الثروات والموارد الطبيعية. ولذلك، اتفق الجميع على أن ثروة هذا البلد الأساسية هي مواطنه نفسه. وببساطة، أصبح المعيار الوحيد الواقعي لقياس مدى نجاعة مشروعنا الوطني هو تشخيص حالة رأسمالنا الأساسي: الإنسان. ويمكن في أي وقت اختيار عيّنة عشوائية من الأردنيين العاديين، وقراءة بيانات مؤشراتهم الحيوية الأساسية: التعليم؛ الصحة؛ الأمان الاجتماعي؛ مستوى الرفاه. وسوف تعطينا هذه البيانات مؤشراً كثير الدقة على سوية أداء سياساتنا الوطنية –صحة واعتلالاً- وستدلنا على المناطق المَعيبة المُحتاجة إلى إصلاح.

وإذن، سيتحدد غنى هذا البلد أو فقره، واستقراره أو فوضاه، بكيفية إدارته لاستثمار رأس ماله. وفي حالة إساءة الاستثمار، ستضعف مؤشرات الأردنيين الحيوية المذكورة، وسيبدو المواطن وكأنه عبء على الدولة وعالة عليها. وهذا في الواقع قلب لسوية الأمور، وينجم عنه تسويغ مسؤولين لأنفسهم معاقبة المواطن بجعل الدولة عبئاً عليه، وبتغريمه كلفة المواطنة بشكل ضرائب، وتأمينات، ورسوم واشتراكات.. إلخ. ووفق هذا المنطق المقلوب، تنقل الدولة أعباءها الخاصة إلى كاهل المواطن تحت عنوان الخصخصة وتحرير الاقتصاد. وبشكل فيه الكثير من عدم الحصافة، تتم خصخصة الأساسيات: التعليم، والصحة. وينعكس ثقل هذه الأعباء على حالة المواطنين حين تستحق أقساط أبنائهم في المدارس والجامعات، أو حين يُبتلى أحدهم بمرض جدّي ويقف في أسوأ حال أمام محاسب المستشفى. ويشبه حمل الخصخصة إلى هذه المناطق، أن يقول الأب لابنه الصغير غير المزود بأي إمكانات: اخرج من منزلي وتدبر أمر معاشك بنفسك.

عندما نطالب المواطن بأن يقول باعتزاز "أنا ابن هذا البلد"، ونريد منه أن يكون ابناً باراً ومُحبّاً، فإن ذلك يجب أن يتأسس على الشرط المسبق الطبيعي: أن يفي الوطن/ الأب بواجباته الأساسية: تعليم الابن بشكل لائق، وتأهيله وتحفيز إمكاناته، والعناية بصحته وهيئته. وفي العادة، يكون إنفاق الأب على ابنه في هذه الشؤون واجباً يُحاسب على عكسه أخلاقياً وقانونياً. وفقط عندما يستوي الابن ناضجاً ومؤهلاً ومزوداً بالفرصة، يمكننا أن نطالبه بأن يعيد للوطن حقّه، ونتوقع مردوداً طيباً لاستثمارنا فيه. وفقط عندئذ، نتوقع منه أن يعين الدولة من خلال استغلال ما قوّيناه في إنتاج ما يعيل به نفسه ويدفع منه فواتيره للمجتمع. أما إذا كانت الدولة لا تتحمل حصتها من الإنفاق على صناعة المواطن أولاً، أي الاستثمار الواعي في مصدر ثروتها الأساسي، فإن مطالبتها الناس بأي شيء ستكون ظُلماً واستغلالاً بكل المقاييس. والحصيلة تأزيم المواطن، فتأزيم الدولة التي هي مجموع مواطنيها بالضبط.

قلت في عنواني: "الإصلاح.. ببساطة"، ليس بقصد التبسيط والتسطيح، وإنما بهدف إعادة تحديد غاية الإصلاح بلا مواربة أو تجريد. وليست مسائل التعليم والصحة والأمان الاجتماعي والرفاه أموراً منفصلة عن الإصلاح السياسي والدستوري وما تشاؤون من العناوين. إننا نريد مواطناً قادراً على ممارسة السياسة وانتخاب ممثليه بوعي؛ منتجاً غير متبطل؛ مستقراً ومحباً للاستقرار؛ وحريصاً على أمنه وأمن مواطنيه، وعارفاً بماهية الحرية ومسؤولياتها وضرورتها. وهذا المواطن النوعي لن يأتي حتماً من الفراغ، ولن يكون برياً تربيه غزالة مثل حيّ بن يقظان الذي ابتكره ابن طُفيل. إنه سيكون الناتج المتوخّى لمشروع إصلاحي في نوعية الأردنيين، والذي يجب أن ننفق عليه ونعتبر ذلك استثماراً لا بدّ أن يكون رابحاً بكل المقاييس، ببساطة لأنه ليس لدينا غيره.

يجب أن نشتغل بإصرار ويقين على إصلاح التعليم شكلاً ومضموناً؛ ويجب إعادة الاعتبار للتعليم العام المجاني بأفضل سوية ممكنة، واعتبار تعليم المواطنين أفضل ما يكون واجب الدولة. ويجب توفير التأمين الصحي المجاني المحترم للمواطنين، واعتبار صحتهم الجسدية والعقلية مكسباً هائلاً للمجتمع والدولة. ويجب تحسين مظلة الأمان الاجتماعي وحماية المواطن من العوز والتوتر النفسي والخوف من المستقبل، لأنّ الوطن لا يبنيه مواطنون عصابيون. ويجب قياس الإصلاح بمؤشرات الرفاه الحقيقي: ليس بالمباني الفاخرة والمظاهر، وإنما بقياس حالة المواطن، بالمعايير المذكورة، ببساطة.

الغد