الإسلام ليس بديلاً حضارياً للناس كافة

الإسلام ليس بديلاً حضارياً للناس كافة
الرابط المختصر

 

يبدو هذا السؤال في غاية البساطة عندما نوجهه لأحد المسلمين، فالجواب معروف ومتوقع وبدهي، ولن يتردد لحظة بالإجابة أن الإسلام يصلح لكل الناس، وأنه يمثّل طوق النجاة للعالم أجمع، لكن إذا انتقلنا إلى مرحلة بيان الأسباب والوقائع والتعليلات، فإن أمر الإجابة يصبح في غاية التعقيد، ذلك أن البحث في كون الإسلام بديلاً حضارياً، يتطلب دراسة فلسفية تلامس الأعماق، وتقف على حدود المستقبل، وتعاين الحاضر، وتخبر الماضي، وهو غير متوفر لدينا في الوقت المنظور، فالمسلمون اليوم يعيشون حلم الماضي الذي يريدون عودته كما هو مرسوم في مخيلتهم، ويبدو أنه حلم مستحيل، لا يمكن تحققه؛ لأن الزمن لا يعود إلى الخلف، والفكر الإنساني مرتبط بالزمن ارتباطاً طردياً، وأية محاولة للعودة إلى الوراء هي زيادة في التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية.

 

البحث في كون الإسلام بديلاً حضارياً يجب أن يتجاوز فكرة الصراع بين الحضارات التي سادت بعد هنتنغتون، ويتجاوز الحتمية التاريخية التي ترى في الإسلام عدواً قادماً، بعدما دق فوكوياما ناقوس الخطر، إننا نبحث عن الإسلام الذي قال عن نفسه إنه سيكون دين العالم أجمع "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، فالبديل الحضاري ليس ديناً منغلقاً على ذاته، يخص طائفة من الناس دون غيرهم، ولهم الأفضلية على الآخرين.

 

لذا يتعين على المسلمين -كما يقول فهمي جدعان- أن يدركوا أن عالم الحداثة لا يأذن لهم أبداً بأن يقسموا الكون إلى عالمين أو (فسطاطين) متقابلين على سبيل الصدام والمواجهة والمقاتلة: (عالم الإيمان) و(عالم الكفر)، وأن الإسلام نفسه لا يدعوهم أبداً إلى ذلك، وأن (التجربة التاريخية) الإسلامية نفسها لم تقبل أبداً هذه النظرية. ويتعلق بذلك أن تقديم (دين الإسلام) في صورة (البديل الحتمي) الكوني لكل العقائد والديانات والحضارات، وإطلاق أحكام قيمية (مرذولة) على ثقافات (الأغيار) وحضاراتهم ومعتقداتهم، مما يشي في أعين هؤلاء الأغيار بموقف (عدواني صريح)، لا يمكن أن يترتب عليهما إلا أحوال (التقابل) و(المواجهة) والصدام، ومعركة (البدائل) التي لا ترحم.

 

إن تقديم الإسلام على أنه بديل حضاري يتطلب منه أن يجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى، كما أن عليه أن يجيب عن الأسئلة الحياتية التي تشكل الهم الأكبر للإنسان على هذه الأرض، أي البحث عن التوازن بين الآخرة والدنيا من أجل خلق نوع من التوازن بين القيمة والمادة "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا"، كما أنه معني بحل المشكلات الإنسانية الأخرى مثل الحريات بكافة أنواعها، حرية الاعتقاد وحرية الفكر وحرية الرأي.. الخ. "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، ومشكلات المرأة والطفل والأسرة والبيئة والنظم الاجتماعية وحقوق الإنسان، وحل النزاعات والفقر والمجاعات ونقص الغذاء والأمراض، وكل ما يتعلق بحياة الإنسان من قريب أو من بعيد، حتى يصل الأمر إلى صيانة العقل البشري من التعطيل والمصادرة "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق".

 

تنبع الحاجة إلى البديل الحضاري من إفلاس كثير من الحضارات في الغرب والشرق، فهي لم تستطع لليوم تلبية طموحات الإنسان، ولم تف بوعودها التي قطعتها لخدمته. وهو من أجل إعادة الارتباط بين المشروع الإنساني الذي يسعى للتطور مع الزمن، والدين بوصفه ضابطا لهذا التطور وليس معيقاً له، ذلك أن الحضارة العربية الحديثة تطورت وبنت كل تراكماتها المعرفية بعيداً عن الدين، وأول قطاعين تم تحريرهما من قيد الدين، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، هما القطاع السياسي والاقتصادي. وبعدهما استقلت الفلسفة حيث ظهرت العقلانية التي أقصت كل عقيدة أو إيمان بالغيب أو مركزية خاصة للإنسان في بحثها عن الحقيقة. وتلت ذلك علمنة الأخلاق، حيث سادت الروح العملية «البرجماتية»، والإيمان بأن البقاء للأصلح وأن الدافع الوحيد للسلوك هو حب الذات، وتمت علمنة الأدب والجنس والأسرة وغيرها من مميزات وممارسات الإنسان لتستقل عن القيم الأخلاقية وعن أي إحساس بالذنب أو الخطيئة، لكي لا تخضع في النهاية إلا لمقاييس اللذة والمنفعة، ويتحول كل شيء في النهاية إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها تجارياً. ومن خلال هذا التشكيل الثقافي للإنسان الغربي تتحدد علاقته مع غيره، فرداً كان أم جماعة.

 

من هنا فإن الحديث عن الإسلام وربطه بالبديل الحضاري الذي يمكن أن يحقق للإنسانية استقراراً على كافة الصعد يتطلب مشروعا فكريا، يقوم على دراسة التاريخ بوصفه تجربة مرتبطة بالزمن، ودراسة الحاضر بوصفه يعاني مشاكل لا حصر لها، ودراسة المستقبل بوصفه الأمل المنشود، ودراسة النص القرآني بوصفه قيما وسلوكات وتعليمات تنظم اتجاهات الفكر الإنساني وأعماله من دون أن تكون حاجزاً بينه وبين التقدم.

 

أما الإسلام المطروح اليوم فهو عنصري طائفي ماضوي، لا يقبل ولا يتصالح مع القيم الإنسانية التي أنجزها الإنسان عبر مئات السنين، بل يريد نسفها وإعادة إنتاجها بعقلية الماضي السحيق. فكيف سيكون بديلاً حضارياً للناس كافة؟

 

يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.