"الأمن في رعاية السياسة"
ثمة إصرار واضح من الدولة على توجيه رسالة حاسمة في مواجهة الموجة الجديدة من العنف الجامعي والاجتماعي.
في المشهد الجامعي، دخل رئيس الوزراء على الخط، واجتمع برؤساء الجامعات، ومنحهم دعماً قوياً لرفض الضغوطات والوساطات التي تريد تحجيم العقوبات المنتظرة. وتزامن ذلك مع إعلان الرؤساء عن قرارات حاسمة ضد الطلبة المتسببين بالشغب، ما قطع الطريق على النواب الذين بدأوا عملياً بممارسة الضغوط واستباق العقوبات، تحديداً في الجامعة الأردنية.
المشهد الأكثر حساسية في معان، إذ أعلن مدير الأمن العام بنفسه عن موقف جديد للدولة مخالف للسيولة التي تعاملت بها مع أحداث العنف السابقة، وذهب إلى معان وبدأ بملاحقة واعتقال المطلوبين الذين أحرقوا المحكمة واعتدوا على ممتلكات الدولة بلا أي سبب، وتحويلهم إلى محكمة أمن الدولة.
في الحقيقة، فإنّ مبادرة مدير الأمن العام إلى تحمّل مسؤوليته وإظهار الحزم والعزم على استعادة هيبة الدولة موقف يسجّل له، ويمنحنا نوعاً من الاطمئنان أنّنا أمام شخصية مختلفة تمتلك الإرادة والشجاعة على دفع استحقاقات مهمة.
لكن ما يقلقنا بحق أنّ مثل هذا الإصرار الأمني لا يمكن أن يعمل في الفراغ، بل سينقلب إلى نتائج عكسية لاحقاً، إن لم يكن هنالك روافع سياسية متينة. وليس المقصود هنا التشجيع والتصفيق من "المطبخ السياسي"، بل العمل على مواجهة جذور الاحتقانات الاجتماعية والجماعية والشروط التي أدت إلى نمو العنف الاجتماعي، وتقف وراء ذلك بلا شك أسباب سياسية واقتصادية وسياسات رسمية متراكمة أوصلتنا إلى هذه المرحلة الخطرة.
ولعلّ الوقوف أمام رسالة وجهاء معان تبرز مدى تطوّر الوعي الاجتماعي في مستوى الأزمة السياسية، إذ أيّدوا ملاحقة المطلوبين وحماية أمن المدينة، لكنهم أشاروا إلى تقصير مسبق في معالجة الحدث مباشرة وتوفير الحماية المطلوبة لمؤسسات الدولة قبل أن تتعرض للانتهاك على يد شباب معدودين من المؤكد أنهم استغلوا الحالة المتوترة في المدينة.
المسؤولية كانت على المحافظ، ابتداءً، الذي لم يقرأ الأمور سريعاً، ويحتوي الموقف ويتدخل بذكاء، وقد سبق ذلك أيضاً أحداث جامعة الحسين، وغاب تماماً دور المحافظة والإدارة المحلية، وهو ما يذكّرنا بتطور أحداث مدينة السلط (سابقاً) إذ تكرر المشهد نفسه.
حسن اختيار الإدارة المحلية وتمكينها من دور فاعل وحقيقي هو أحد روافع مواجهة العنف، فيما تذهب العوامل الأخرى إلى ضرورة فتح آفاق الحوار مع المجتمع والناس واللقاء بهم، ليس بداعي الاستعراض الإعلامي، بل للنقاش حول الأوضاع الحالية وهمومهم واستراتيجيات الإصلاح المطلوبة.
والوقوف عند حالة معان فقط يظهر كم هو التقصير الرسمي شنيع وكبير، إذ إنّ هذا الملف ما يزال مفتوحاً ومزعجاً للدولة، وإذا وسّعنا الدائرة فإنّ الإهمال السياسي والتنموي للجنوب عموماً يتطلب استراتيجيات مختلفة تحيي هذا الإقليم وتؤدي إلى هجرة معاكسة وتطوير للبنية الاجتماعية فيه.
مما ينبغي أن يرفع وتيرة القلق والانتباه أنّ هذه الأزمات والتراكمات والأخطاء تتوازى وتتزامن مع ظروف اقتصادية صعبة تجتاح العديد من الدول، ونحن نتابع ما يحدث في تونس، وهي دولة بوليسية بامتياز، فقدت السيطرة على الأمور، والجزائر وهي دولة الجنرالات، فما بالك بدولة مثل الأردن تقليدياً تعتمد المنظور الأمني الناعم وليس الخشن، فإنّ الأمور تحتاج قراءة متأنية وعميقة.
في السنوات الماضية سادت معادلة "السياسة في رعاية الأمن"، فغلّبت الاعتبارات الأمنية على الإصلاحية والتنموية، والآن لا يجوز الاعتماد على "رجل الأمن" لمواجهة استحقاقات سياسية كبرى، بل لا بد أن تزوده الإصلاحات السياسية بـ"كاسحات الألغام"، حتى لا ينفجر أي لغم في وجهه.
الغد