الأردن في عين العاصفة
يشهد الأردن حالة قلق غير مسبوقة بشأن مستقبله وأمنه وأمانه واستقراره، فالمسألة لم تعد تحتمل التسويفات الرسمية، في بلدٍ ينوء تحت ثقل الديون الخارجية، ومكشوف للعواصف السياسية الإقليمية. والشعور بالخذلان، والتعبير عنه بشعاراتٍ تمس سلطات الملك، وأحيانا شخصه، مؤشّر على عمق الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي تعصف بالأردن، وعلى فقدان الثقة المتنامي في قدرة الدولة على وقف التدهور نحو الحافّة، ومن التعامل مع "صفقة القرن" وتداعياتها على استقرار البلاد.
التصعيد في الخطاب السياسي من الحراكات السياسية، بما فيها حراكات أبناء العشائر، رسالة إلى القصر، بتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع السياسية والمعيشية، وإلى تعميق إحساس صانع القرار بالخطر، لدفعه إلى اتخاذ قرارات بتغيير النهج السياسي والاقتصادي الذي يصدّع التماسك الداخلي في مواجهة التحولات الإقليمية.
ارتفاع سقف الشعارات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، هو أيضاً صرخة وجع جمعية، خصوصا من الطبقات الأكثر تضرّراً من انتشار البطالة وارتفاع الأسعار، لا يمكن للقصر تجاهلها، والرهان على صبر الأردنيين ومخاوفهم من عدم الاستقرار، ومن دخول البلاد في فوضى، فالجوع واليأس معادلةٌ تأزيمية، إن لم تكن تفجيرية.
فالملك يبدي هدوءاً ملحوظاً بالاستماع إلى ملاحظاتٍ حادّة في النقد، ولا يقاطع، بل يعبّر عن رغبته في الاستماع إلى المزيد. ولكن من الصعب الجزم بمدى اقتناعه بخطر اتساع الغضب الشعبي العميق، إذ إن إدارة القصر والحكومة الأزمة إلى الآن لا تنبئ بالبدء بتغييراتٍ حقيقية في النهج، السياسي والاقتصادي.
صحيح أن الملك يستمر في لقاءاته مع "كتل سياسية"، داخل مجلس النواب الأردني وخارجه، إضافة إلى لقاءات مع صحافيين وسياسيين، تشمل شخصيات معروفة بمعارضتهم السياسات، وقربهم من الحراك الأردني، لكن جدية الوضع تستدعي حواراً شاملاً وواسعاً للاتفاق، من أجل وضع أسس برنامج إنقاذ وطني، للبدء في عملية التغيير. ولكن إدارة الأزمة إلى الآن قاصرة، بل وأحيانا فاشلة، تتسم، في أحسن أحوالها، بمحاولة إطفاء حرائق تشتعل هنا وهناك، تترك إلى الآن انطباعا لدى كثيرين بأن الهدف هو التنفيس والتهدئة، وليس المبادرة في وضع الحلول.
يبعث الملك في لقاءاته رسالة مفادها تفهّمه ضرورة "الإصلاح السياسي المبني على تغيير قانوني الانتخابات والأحزاب، لضمان توسيع حقيقي وواسع، وأن الأردن ماضٍ في بناء علاقات مع دول المحيط باتفاقيات، بهدف تنشيط الاقتصاد الأردني، وتشجيع الاستثمار، وأنه مرتاح من تجاوب تركيا بالذات، وتفهّم العراق ضرورة توسيع التعاون الاقتصادي مع الأردن. والملفت في حديث الملك، في هذه اللقاءات التي شاركتُ في أحدها، وبناءً على مقابلاتٍ مع مشاركين في لقاءات أخرى، تخوّفه من تشكيل محور أمني عماده إسرائيل والسعودية ضد إيران، مع عدم إشارته إلى السعودية بالاسم، مع تسارع الإجراءات الإسرائيلية ضد الداخل الفلسطيني، خصوصا استهتار إسرائيل والإدارة الأميركية بالوصاية الهاشمية على القدس.
فالملك، وفقا لمسؤول في القصر، أبلغ إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بوضوح، امتعاضه من مؤتمر وراسو، الذي عُقد يومي 13 و14 فبراير/شباط الماضي، على الرغم من مشاركة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، فيه، ووجوب التركيز على القضية الفلسطينية، وليس على العداء لإيران، خصوصا أن الملك، كما يقول مسؤول أردني سابق، يخشى من أن "يرمي ترامب إدارة الضفة الغربية" في حضن الأردن، وهو أمر يرفضه العاهل الأردني.
التناقض بين كلام الملك عن السياسة الداخلية والخارجية وما يجري على الأرض، يفقد الرسائل جزءاً من مصداقيتها، في أجواء مليئة بالشك. فالمواطن الأردني أصبح لا يصدّق ما يسمعه،
وأحيانا حتى ما يراه، وسط استمرار سياساتٍ ضريبية غير عادلة، خصوصا ضريبة المبيعات، وتسريح شركات ومصانع أعدادا متزايدة من الموظفين والعمال، واستمرار الأجهزة الأمنية في استدعاء نشطاء التواصل الاجتماعي، والمشاركين في الاحتجاجات، للتحقيق والتهديد.
أصبح تغيير النهج شعار الأغلبية، وهو تلخيص لما تطالب به المجموعات الحراكية والأحزاب، وتتبنّاه حراكات العشائر، بدءا بحراك شباب بني حسن القوية، وتعبّر عنه احتجاجات في محيط رئاسة الوزراء (الدوار الرابع) التي دخلت أسبوعها الخامس عشر، إضافة إلى صدور البيانات المطالبة بإلغاء تعديلاتٍ دستورية وضعت السلطات في يد الملك والأجهزة الأمنية، ووضعت الملك نفسه في مواجهة الاحتجاجات والانتقادات النخبوية والشعبية، فموجات زحف معطلين عن العمل إلى الديوان الملكي، مطالبين بوظائف لهم، دليلٌ على فقدان الثقة في قدرة الحكومة على اتخاذ القرارات، وأنهم يعتبرون القرار بيد الملك، وعلى إهمال المحافظات وتهميشها من التنمية الاقتصادية المجتمعية، وإن كانت البطالة والفقر منتشرين في العاصمة عمّان، وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينية.
ويعكس مطلب تغيير "النهج" وعياً متنامياً بخطرٍ جراء تفريغ مؤسسات الدولة من مضمونها، والتخلي عن مقدرات الأردن الاستراتيجية من بوتاس وفوسفات وأسمنت لصالح عملية خصخصة، خلت من أدنى معايير الشفافية، واعتماد الأردن على القروض والمنح الخارجية، ما ضرب استقلالية قراره السياسي والاقتصادي معاً.
وفي جوهر الموضوع، هذا اختلال في معادلة الحكم التي قام عليها "السيستم" الأردني، منذ نشوء الإمارة الهاشمية الذي يتمثل في الحفاظ على دور إقليمي، في سياق المصالح البريطانية، وبعد ذلك الأميركية، مع ضمان الولاء، خصوصا من العشائر الشرق أردنية، من خلال توفير وظائف في القطاع العام، وبالتالي نشوء الدولة الريعية التي تعتمد على مقايضة الوظائف الحكومية وفي الجيش والأجهزة الأمنية.
وضعت هذه المعادلة النظام في مواجهة الشعب، في منعطفات عديدة، لكنها نجحت فترة لضمان استقراره، وسط منطقة ملتهبة، نتيجة الاستعمار الصهيوني لفلسطين، والحروب التي شنتها الولايات المتحدة على دول عربية، وتداعيات إجهاض الانتفاضات العربية من ثورات مضادة، وتدخّل خارجي، وركوب دول غربية وعربية وإقليمية هذه الموجة الاحتجاجية.
وقد أدت هذه المعادلة إلى اختلالات عميقة في بنية النظام السياسي والاقتصادي والمجتمعي، بدأت تتفجر بقوة، محدثةً ارتدادات تهدّد الاستقرار السياسي والمجتمعي في الأردن، خصوصا في السنوات العشر الماضية، وصولا إلى الأزمة الحالية.
المشكلة أن النظام السياسي الذي تنبّه إلى تمرّد غير مسبوق للعمود الفقري للنظام، أي العشائر الأردنية، لما كان يعتبره عماد قاعدته الاجتماعية، خلال هبّة الجنوب (أو هبّة نيسان) عام 1989، والتي كشفت مبكرا عن عدم إمكانية استمرار الدولة الريعية بعد انخفاض عائدات الأردن من الخليج، وهبوط سعر الدينار، والتوقيع على أول اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، التي بشّرت باندماج الأردن في اقتصاد السوق العالمي، فبدلا من انتقال الأردن من الدولة الريعية، أي التي تعتمد على مفهوم المكارم، بدلا من مفهوم الحقوق الاقتصادية، إلى مجتمع الإنتاج ودولة الرعاية الاجتماعية، تسارعت المسيرة إلى اللبرلة غير المنضبطة، من خصخصة أهم مقدرات الأردن، وبيعها لشركات أجنبية، أفقد الدولة قدرتها على توفير الوظائف، والحفاظ على نظام الرعاية الطبية والتعليمية والصحية والنقل العام، وأضعف الاقتصاد الأردني.
وبدلا من مراجعة الاعتماد على القروض والمنح الخارجية، ورّطت الحكومات المتعاقبة الأردن
والأردنيين في تراكم الدين الخارجي. وبالتالي، في تعميق التبعية الاقتصادية والسياسية، والتي انتقلت إلى مرحلة خطيرة، بعد معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، وما تبعها من تسارع في التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، من اتفاقيات شراء الغاز الصهيوني (الفلسطيني المسروق) اتفاقية قناة البحرين، وبناء تجارة حرّة على الحدود الأردنية تخدم الاستراتيجية الإسرائيلية، تعتبرها تل أبيب نقطة انطلاق الشاحنات، محملة بالبضائع إلى الأسواق العربية.
يواجه الأردن معضلة حرجة؛ فكيف يبدأ ببناء اقتصاد وطني إنتاجي، وهو مرتبط بمعاهدات واتفاقيات تحدّ من استقلاله، وتقوّض الاقتصاد الوطني والعدالة الاجتماعية؟ وهو في حاجة إلى اللحمة الوطنية، إذا كان مستعدا للبدء، ولو بخطوات بسيطة نحو هذا الحجم من التغيير.
وقد دعا الأمير حمزة، شقيق الملك، أخيرا، في تغريدة له، إلى اللحمة الوطنية في مواجهة التحديات التي تواجه الأردن، وتم نشر خبر عن التغريدة في الصحف الأردنية، في مؤشر على توافق الملك مع أخيه في توجيه الرسالة.
لكن تحقيق ذلك هو من السهل الممتنع، فمن دون البدء بخطوات عملية، لن تقتنع قطاعات واسعة من الشعب الأردني بالاصطفاف موحدةً خلف الملك، من دون طمأنة الأردنيين بخطواتٍ ملموسة، أولها تغليب الاعتماد على ثقة الداخل الأردني على الحليف الأميركي المخادع.
*كاتبة أردنية نقلا عن العربي الجديد