إذا كانت الخسارات السياسية التي ندفعها يوميا غير محسوبة بالارقام، وان كانت باهضة، فان الخسارات الاقتصادية التي نحصدها بسبب “الاضرابات” العمالية المطالبية” تبدو مذهلة، ففي أسبوع واحد فقط شهدنا نموذجين احدهما لعمال الموانىء والآخر لموظفي الاراضي والمساحة، الاول مضى عليه حتى الآن سبعة أيام وكبّد الخزينة نحو 30 مليون دولار، فيما دخل الاضراب الثاني يومه الثامن وقدّرت الخسائر المترتبة عليه نحو 10 ملايين دينار.
أربعون مليون دينار خسرناها في أسبوع واحد، واذا اضفنا لذلك ما ترتب على الاضرابين من اضرار بمصالح الناس نتيجة الامتناع عن تقديم الخدمة لهم، ومن ارباكات” في عمل المؤسسات وهدر الوقت واضطراب في مزاج العاملين والموظفين، في مقابل “صمت” رسمي وعدم القدرة على التدخل وطرح الحلول المناسبة فاننا امام “حالة” غير مفهومة ولا مقبولة، اخطر ما فيها انها تحولت الى “ظاهرة” قابلة للاستنساخ، ولا يتحمل مسؤولية هذه الاضرار العاملون والموظفون الذين يطالبون بانصافهم وانما “الادارات” التي عجزت عن التواصل مع هؤلاء وتسوية قضاياهم وتطمينهم على “معيشتهم” وحقوقهم.
ظاهرة الاضرابات موجودة في العالم لكنها في بلادنا تأخذ اشكالا اخرى، فهي احيانا تعبر عن حالة “انتقام” يمارسها العاملون ضد مؤسستهم، وتعبّر احيانا اخرى عن صورة من التحدي للحكومات والمسؤولين، وقد تنحدر الى سياقات من “التعبير” عن الخيبة في الدولة بسبب غياب موازين العدالة او اضطراب المعايير او “الخوف” من المستقبل.
لا يجوز -بالطبع- النظر الى هذه الاضرابات المطالبية بمعزل عن الحالة السياسية العامة، فمعظم ما نشهده في الشارع وفي المؤسسات التي يخرج عمالها “للاحتجاج” ليس إلا الوجه الآخر “لعملة” الصراع على الاصلاح التي تعرضت -وما تزال- لمحاولات من الشدّ والجذب.. والغش ايضا.
يفترض، لا بل يجب،ان نخرج من لعبة “المشاهدة، فقد اكتشفنا بعد نحو عامين اننا ندور في حلقة “فارغة” ونخسر يوميا بلغة الارقام المحسوسة وبحسابات السياسة، ونقف عاجزين عن ادارة ملفاتنا وعن رؤية اخر النفق، لا ادري بالطبع لماذا، مع ان استحقاقات الاصلاح على كافة المستويات مقدور عليها واقل كلفة مما يتصور البعض ومع ان مطالب الناس بشقيها السياسي والاقتصادي لا تحتاج لكل هذا “الضجيج” الذي تصنعه الازمات واصداؤها في الشارع.
ببساطة يمكن للمسؤولين في بلادنا ان يتوجهوا على الفور لمناقشة “المضربين” في الميناء وفي الاراضي، وان يتوصلوا معهم الى توافقات مرضية، كما يمكن للمسؤولين ان يذهبوا الى الشباب الذين يحتجون ويعتصمون للرد على اسئلتهم وتبديد مخاوفهم والتداول حول مطالبهم لكن هذا للاسف لم يحصل.. ترى لماذا وصلنا الى هذا المنعطف المسدود؟ لماذا اسقطنا من حساباتنا لغة الحوار والتفاهم؟ ولماذا انحزنا الى الرهان على احتمالات قد لا تتحقق؟ لماذا وضعنا اكفنا على عيوننا وانشغلنا باحصاء الخسائر، فيما الاولى ان ننشغل بتعظيم المكاسب.
الدستور