استطلاعات خالية من الدسم
مع كل التقدير والاحترام للمنهج المتبع في إعداد ما يعرف باستطلاعات الرأي العام، فإن ما تخرج به من نتائج تكون، في الغالب الأعم، مصممة لخدمة فكرة مسبقة يريد التعرف عليها من يقوم بهذا الاستطلاع. وفي الحالة الأردنية، فإن دوافع إجراء الاستطلاعات تتراوح بين رغبة الحكومات في التعرف على حالة محددة أو مشكلة محددة وفق منظومة من الأسئلة التي تؤكد فكرتها المسبقة التي تريدها.
وأما النوع الآخر من الاستطلاعات الذي تقوم به منظمات (أو في بعض الحالات دكاكين) المجتمع المدني، والتي هي أصلا مسجلة في وزارة الصناعة والتجارة، فهي تقوم على الاتفاق مع الممولين على فكرة محددة يريد "الممول الأجنبي" الوصول إليها، فيجد في "شركات" المجتمع المدني من يقدمون له على طبق من ذهب الفكرة التي تواتيه، علما أن تلك الشركات التي لبست لبوس منظمات المجتمع المدني تكون في ذات الوقت قد قدمت ما يبرر عملها الوطني الخالص إلى جهات أخرى في الحكومة، وتأخذ منها المباركة على عملها الوطني ذلك، وهي في حقيقة الأمر تطعنها في الخلف!
وتتفق الشركات والمنظمات والجامعات وكل الجهات المستعدة لعمل هذا النوع من البحث السطحي مع الأفراد الذين ينفذون الاستطلاع، ويكون الميدان حقل العمل الخاص بهذه النتائج التي ترسم بها استراتيجيات وتبنى عليها سياسات؛ والمخفي أعظم. وهذه الدراسات لا شك أن جزءا منها مهم وجيد ومفيد إذا ما تم التعامل معه وفق معايير تتم صياغتها بطريقة تخدم الغرض من تلك الدراسة، ولكن من الواضح أنه في أحيان كثيرة، يكون هذا اللون من البحوث محببا إلى النفس أكثر لخفة وزنه وعدم وجود أي سعرات حرارية فيه يمكن لها أن تسبب أمراضا في المستقبل، ويخفف من حجم العجز البحثي الذي تعاني منه مجتمعاتنا. وعليه، فتلك الاستطلاعات في أحيان كثيرة تخدم فئة محددة وغرضا محددا، ولكن الخطورة تكمن في أنها ترسم سياسات كبيرة يعتقد المخططون الأفذاذ أنه قد تم بناؤها وفقا للدراسات التي تم إعدادها. فمثلا، تحدث الاستطلاع الأخير لمركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية، عما هو سابق من مشاكل تتعرض لها الحكومات، وتحدث أيضا عن الطفيلة والكرك ومعان باعتبارها المحافظات الأكثر نقدا لسياسات الحكومات، ويعتقدون أنها غير قادرة على القيام بمهامها!
ولكن هل هذا الاستنتاج الذي وصل إليه الاستطلاع جديد ويستحق الوقوف عنده؟ الإجابة طبعا لا، فأغلب الاستطلاعات التي تجرى، من هذه الجهة أو تلك، تؤكد تلك الحقيقة بأن محافظات الجنوب هي الأجرأ والأقدر على التعبير من باقي المحافظات. وهذا الاستنتاج مبني على تراكم عدة استطلاعات أجريت، ولكن لم يجر التركيز على هذه النقطة بالذات لكون موضوع محافظات الطفيلة ومعان والكرك لم تكن بحاجة إلى تسليط الضوء عليها في تلك المسألة أو غيرها. لذا فليس هذا بالجديد، ولكن الجديد هو الحديث عنه. مسألة أخرى تستحق الذكر في هذا المقام الخاص بالاستطلاعات، وهي أن بناء الاستراتيجيات عليها سوف يؤدي بنا إلى الانزلاق مجددا في باب النسب والأعشار، وينحرف عن الطريق الحقيقي لفهم المجتمع والوصول إليه بطريقة علمية تبتعد عن الرقم الذي يصاغ بطريقة مريبة!
الغد