إكس أورينت لوكس

إكس أورينت لوكس
الرابط المختصر

 

هذا ما كان يقوله الرومان: "النور يأتي من الشرق"!

لعلّها عبارة باتت منذ ما يزيد على قرنين تشير إلى معناها الحقيقي لا المجازيّ، والذي يعني ظاهرة كونيّة جغرافيّة فحسب، إذ تشرق الشمس من الشرق أمّا النور، نور المعرفة وربّما الوئام والرخاء، فبات يسطع من الغرب كما يقول سلامة موسى.

 

نؤمن بكثير من الأشياء التي لا نراها، لكنّها تجعل لوجودنا معنى، لأنّنا لو لم نفعل ذلك لسيطرت علينا اللاجدوى، وذلك الذي يسمّى بالأمل المعقود على تجارب التاريخ، ودوراته المتعاقبة، فعلى الرغم من كلّ هذا الموت والدمار الذي نعيش في أتونه، نفكّر في أنّ الإشراق من جديد ليس شعاراً أو خيالاً، إذ ليس القتل، والسحل، ونبش القبور، وقطع الرؤوس جديداً لا على الشرق ولا على الغرب. إنّ كتب التاريخ ملأى بتلك الحوادث و"كلّما دخلت أمّة لعنت أختها"، ومع ذلك يمكننا أن نحارب "الأجندات" بقوّة الأفكار!

 

ينتظر المؤمنون النور الدينيّ القادم بعودة السيّد المسيح أو المهدي المنتظر، وينتظر غيرهم نور المواطنة، والنزاهة، والعدالة الاجتماعيّة التي لا مكان فيها للمتعصّبين، إذ لم يكن التعصّب يوماً من أجل الدين، كما نعلم، بل من أجل السلطة والنفوذ، الذي يحدونا على أن ننسى ما يحدث في فلسطين، في الأقصى والمهد، وعلى أن نستخرج من النصوص المقدّسة ما يُفرّق، على الرغم من أنّنا يمكن أن نستخرج منها ما يجمّع ، ذلك أنّ الأفعال راجعة إلى التأويل، والتأويل نشاط بشريّ، يمارسه الأسوياء مثلما يمارسه المشوّهون.

 

في هذا الإطار أرفض الحوارات، لا سيّما تلك الموسومة بعنوان "الحوار المسيحيّ- الإسلاميّ"، لعلّه تعبير يشير إلى الفصام الثقافيّ للمجموعة البشريّة المسمّاة بالعرب أو بالمشرقيّين، وتحتاج مراجعة هذه العلاقة لأن تسمّى بالمونولوج، لأنّها علاقة بين الذات وتاريخها الشخصيّ، وفي الوقت ذاته أسعى إلى ثوابت تمنح السلام والكرامة، حتّى لو كانت نتاج الخيال، فقد طرحت النظريّة الثقافيّة فكرة تحيل السرديّات الكبرى إلى الخيال الذي يصير في لحظة ما إرادة منتِجة، فالأمم خيال، وكذلك هو التاريخ، فلتكن خيالاتنا إذن كما نريد، لا كما يراد لنا، إذ الخيال الملكة الوحيدة التي تجسّد معنى الحريّة، وإذا كان من الممكن صياغة وعي جمعيّ، فمن الممكن أيضاً صياغة خيال جمعيّ!

 

تعلو بعض الأصوات متسائلة عن الدور المنوط بالمسيحيّة العربيّة في هذه المرحلة التاريخيّة المؤسفة، وما استهداف المسيحيّة هنا إلاّ لأنّها عربيّة من هذا الشرق المعذّب الذي يكثر الحديث فيه عن العيش المشترك، والذي يشير إلى مشكلة في بنية العقل العربيّ، تسوّغ أو تدين تهجير المسيحيّين من الشرق، أو تسهيل هجرتهم التي بات هذا الجيل يتوهّم معها أنّ المسيحيّ أوروبيّ لا عربيّ، فضلاً عمّا تتعرّض له الكنائس من أعمال إرهابيّة في العراق وسوريّة ومصر، لتفعيل الغريزة التي يستفزّها الخوف.

 

من حسن حظّي أنّني لم أُحرم من دراسة التاريخ العربيّ المسيحيّ، كما تحرم هذه الأجيال، ويعود ذلك إلى أسباب عدّة ليس آخرها المنهاج الدراسيّ الواعي الذي حظيت به، وكذلك التربية الأسريّة، ممّا يحفّز على معرفة تفاعلات الجينات الثقافيّة، وعلى أبسط قواعد العمارة التي تفيد بأنّك لا يمكن أن تبني بناء على أساسات مجهولة، ولابدّ من فحص التربة كيميائيّاً!

 

يأتي كتاب الأرشمندريت أغابيوس جورج أبو سعدى، راهب باسيليّ مخلّصيّ فلسطينيّ، وعنوانه "المسيحيّة العربيّة والمشرقيّة" /دراسة تاريخيّة/ 2015، ليردّ على هذه الأصوات، حيث يصل في درسه إلى وضع المسيحيّة العربيّة في ظلّ ما يسمّى بالربيع العربيّ. لعلّه بحث علميّ جريء في طروحاته، بعيداً عن الغزل المسيحيّ الإسلاميّ الباهت والمخادع. يسأل الأرشمندريت (أبو سعدى) عن تغييب التاريخ العربيّ المسيحيّ عن المناهج الدراسيّة، ويرفض تسميته بالذميّ المتعارف عليها في المعاملات الإسلاميّة، والتي تحتاج إلى تفصيل لغويّ وتاريخيّ، كما تحتاج أمور أخرى إلى مراجعات كثيرة، ومنها الاعتراف بفكرة الهجنة السياسيّة، وهجنة الحوكمة، التي على القائمين عليها أن يكونوا واضحين وفاعلين، وآخذين في اعتبارهم فكرة الارتقاء الاجتماعيّ النابع من الظرف الحاليّ، غير مستكينين لشرط تاريخيّ دوغمائيّ.

 

يقول الأرشمندريت (أبو سعدى) في مقدّمة كتابه: "رأيت أنّه من واجبي وصلب رسالتي كراهب وكاهن عربيّ فلسطينيّ مسيحيّ آمن منذ نعومة أظفاره ولا يزال يؤمن بوحدة أبناء الشعب العربيّ الواحد مسيحيّيه ومسلميه، أن أخطّ بيدي هذه الدراسة تأكيداً على تجذّر المسيحيّة العربيّة وتأصّلها في أرضها، أرض الزيتون، أرض فلسطين.".

يعرف هذا الكاهن أنّ ما يفعله هو شكل من أشكال المقاومة، مقاومة التغييب، والتهجير، والتطهير القاتل، إنّه يقول إنّ من واجبه أن يكتب، وعلى كلّ أن يقول: من حقّي أن أعرف.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.