إصرار أوباما على بناء الثقة كشرط للعمل مع إسرائيل
إن الولايات المتحدة هي القوة العالمية الوحيدة القادرة على مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين في تحقيق السلام، وقليلون يشككون في مكانة أميركا الفريدة في منطقتنا، ولكي تكون الولايات المتحدة قادرة على المساعدة في رعاية عملية سلام جدية، فإن ثقتها بنوايا ووعود كل من الطرفين في الصراع هو أمر في بالغ الأهمية.
وعندما نستعرض الجهود التي تبذلها إدارة أوباما منذ انتقالها إلى البيت الأبيض فإنها، على ما يبدو، تركز على هذه المسألة الحساسة، فبينما تركز وسائل الإعلام على قياس درجة الحرارة للعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل وعلى آخر موقف بينهما في ما يتعلق بالمستوطنات أو القدس، فإن واشنطن كانت تركز على قضية أساسية أكثر بكثير من تلك الأمور ألا وهي الثقة، فغياب الثقة يبدو أنه السبب الحقيقي، أكثر من إطلاق الإعلانات حول المستوطنات، وراء الاستياء الذي ظهر خلال ربيع عام 2010 لإدارة أوباما تجاه أهم حليف لها في الشرق الأوسط ألا وهي إسرائيل.
ولم تظهر هذه المشكلة بين عشية وضحاها بل بدأت مع مشاركة قوية للولايات المتحدة في الصراع في الشرق الأوسط ابتداء من اليوم الأول لإدارة أوباما، ورفعت الإدارة حديّتها بكلمات قوية من البيت الأبيض ووزارة الخارجية في ما يتعلق بضرورة أن تجمد إسرائيل جميع الأنشطة الاستيطانية تمتما، ثم تراجعت واشنطن مرة أخرى، وبدت وكأنها تقبل عرضاً إسرائيلياً وهو نوع من التجميد الكامل ولكن مع بعض الإلتزامات الواضحة، وعندما لم يتم حفظ هذه الالتزامات الإسرائيلية أدرك الرئيس أوباما أنه يحتاج أن يؤكد وبشكل واضح أهمية الالتزام بالوعود العلنية والخاصة لكل من الطرفين.
ليست الحاجة إلى بناء الثقة بأمر جديد لجهود السلام في الشرق الأوسط. فالدروس المستفادة من فشل المحاولات السابقة لتحقيق انفراج في عملية السلام تشير إلى غياب الثقة، والفجوة بين ما هو متفق عليه وراء جدران البيت الأبيض أو وزارة الخارجية وما يحدث على أرض الواقع في إسرائيل وفلسطين قد عملت أكثر من أي عامل آخر على تسميم العلاقات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني وكذلك بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وقد دعا دبلوماسيون ومراقبون مراراً وتكراراً الولايات المتحدة وغيرها من أعضاء اللجنة الرباعية (أوروبا وروسيا والأمم المتحدة) لأن يحددوا علناً من هو الطرف الذي ينتهك الخطوات المتفق عليها نحو السلام، ولكي تتزامن التفاهمات وراء الأبواب المغلقة والواقع على الأرض، من أجل استعادة الثقة صعبة المنال.
فقد أعطى السفير الأميركي السابق دان كيرتزر وسكوت لاسنسكي من المعهد الأمريكي للسلام هذه المشورة نفسها إلى الإدارات الأميركية السابقة والحالية وذلك على أساس بحث شامل حول ما هو مطلوب من أجل أن تكون القيادة الأميركية فعالة، وكتابهما "التفاوض على السلام العربي الإسرائيلي: القيادة الأميركية في الشرق الأوسط" يبرز 10 دروس تمت الاستفادة منها حول فشل محاولات الولايات المتحدة في التوسط لإحلال السلام.
ينص الدرس الخامس: "إن الالتزامات والاتفاقات المبرمة التي تعهدت بها الأطراف يجب أن تُحترم وتُنفذ، ويجب على الولايات المتحدة ضمان الالتزام من خلال المراقبة ووضع معايير للمساءلة والإعلان عن الانتهاكات من قبل الطرفين والعواقب الصارمة عندما يتم انتهاك الالتزامات أو الاتفاقات التي لا تنفذ."
هذا ما أصر عليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما عندما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في أيلول من عام 2009 حيث ذكّر كلّ منهما بالتزاماته وفقاً لخارطة الطريق واتفق مع كلا الزعيمين على المسار الجديد.
وفي حين أن عدداً كبيراً من الفلسطينيين في ذلك الاجتماع قد شهد تراجعاً في موقف الولايات المتحدة، فإن الفلسطينيين كانوا على استعداد لاستيعاب رغبات الولايات المتحدة في استئناف المفاوضات في عام 2010 من خلال موافقتهم على أن تكون بشكل غير مباشر إلى حين أن يُظهر الجانب الإسرائيلي جديته في موضوع السلام.
ويشهد العالم أجمع على وفاء الفلسطينيين بالتزاماتهم خاصة على الصعيد الأمني.
وقد عملت قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية بشكل جيد للغاية لمنع أعمال العنف ضد إسرائيل، حتى في أثناء حربها في غزة، وأشاد مسؤولون أميركيون وجنرالات إسرائيليون بتلك الجهود بما في ذلك نجاح الفلسطينيين المدربين حديثاً بالتشاور مع الجنرال الأميركي كيث دايتون.
لقد تم انتهاك هذه الثقة في شهر آذار عام 2010 عندما زار نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل لبدء محادثات غير مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فالحكومة الإسرائيلية غير القادرة على وضع الائتلاف اليميني تحت السيطرة، واجهت محاولات الولايات المتحدة لإحلال السلام بالتحدي العلني الأول. إن إعلان إسرائيل في التاسع من آذار، عن بناء 1600 وحدة سكنية في القدس الشرقية قد اعتبر عالميا بأنه صفعة في وجه الإدارة الأميركية وهي من إحدى أقرب حلفاء إسرائيل. وقيل لبايدن الذي يتفاخر باستمرار حول اعتماداته "الصهيونية"، أن رئيس الوزراء لم يكن على علم بقرار وزير داخليته. اعتذر نتنياهو في وقت لاحق، وقبل أن يغادر بايدن، عن التوقيت ولكن ليس عن القرار نفسه، وهذا القرار قد جاء بعد قرار آخر بإضافة 112 وحدة تمت الموافقة عليها في مستوطنة خارج بيت لحم قبل بضعة أيام، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي قد أجاز في وقت سابق إقامة جامعة في مستوطنة أرييل اليهودية في عمق الأراضي الفلسطينية.
ظهر إعلان هام بعد أسابيع قليلة وخلال المناقشات التي جرت في واشنطن بين مسؤولين أميركيين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث أعلن الأخير تحت الضغوط الأمريكية والدولية عن وقف الأنشطة الاستيطانية اليهودية في القدس الشرقية العربية، كما أعلن أن محادثات السلام قد تتأخر عاماً آخراً.
وادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي "أن الفلسطينيين هم الآن في صدد تقديم طلب جديد، وإذا ما اعتمد هذا الطلب فسنفقد عاماً آخراً".
إن الدعوة لتجميد الاستيطان في القدس ليست بالتأكيد مطلبا فلسطينياً جديداً، فمنذ عام 1967، لم يتوقف الفلسطينيون عن المطالبة بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية، كما أن التوسيع الإسرائيلي أحادي الجانب لحدود المدينة وضم الأراضي المحتلة رفضه الفلسطينيون والمجتمع الدولي بأسره أيضاً، لم يقبل أي بلد، بما في ذلك الولايات المتحدة، هذه الخطوة الإسرائيلية كما لم يوافقوا على نقل سفاراتهم إلى المدينة المتنازع عليها.
إن فشل إسرائيل في إقامة علاقة ثقة مع واشنطن أنتجت تطوراً سياسياً غير متوقع لا يتلاءم مع الإسرائيليين واللوبي القوي الموالي لإسرائيل، وهناك قطاع من الحكومة الأميركية الذي كان في السابق صامتاً تماماً بشأن الصراع في الشرق الأوسط قد كسر أخيراً المحرمات المفروضة ذاتياً.
يبدو أن زعماء أميركا العسكريين قد عانوا بما فيه الكفاية، وقرروا أن يتحدثوا عما يسببه تشدد إسرائيل من عوائق تجاه مصلحة الولايات المتحدة الوطنية.
نطق الجنرال الأميركي المشهور شعبياً في أميركا ديفيد بتريوس أخيراً بالكلمات التي كان يقولها كثيرون خلف الأبواب المغلقة لعقود من الزمان، والموقف الأخير لهذا الجنرال يضع التأييد الأميركي الأعمى لإسرائيل في تناقض مباشر مع أقدس مؤسسة لأميركا وهي المؤسسة العسكرية.
ولكي نكون منصفين، فإن التلميح في هذا الشأن بدأ بالتسرب من واشنطن منذ بعض الوقت. فقد أدلى الرئيس الأميركي جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بتصريحاتهما الأولى في هذا الاتجاه عندما قالا علناً إن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو في مصلحة الولايات المتحدة القومية، وكرر الرئيس باراك أوباما هذا التصريح في خطاباته العديدة، بما في ذلك خطابه التاريخي في جامعة القاهرة، ولكن ولسبب ما، فإن مثل هذه التصريحات، برغم أهميتها، لم يتردد صداها في الولايات المتحدة أو بين الإسرائيليين، فقد حاولت بعض القوى الفلسطينية وتلك المؤيدة للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة أن تبني عليها، ولكن معظم هذا الجهد لم يثمر في مجال السياسة أو الإعلام الأميركي.
ولكن عندما يقول ذلك قائد القوات العسكرية الأميركية وهو المسؤول عن حياة مئات الآلاف من الأميركيين، فإن الناس يتوقفون ويستمعون، فمن الصعب على القوات الموالية لإسرائيل، سواء أكانت قادمة من الأوساط اليهودية الأميركية أو الأصولية المسيحية الأميركية، أن تجادل مع جنرال ذي شعبية مثل بتريوس، ومن المفارقات أن الكثير من هذه القوى اليمينية تمدح الجيش وتدفع بتريوس نفسه لخوض انتخابات الرئاسة.
منذ التغيير في موقف الجيش الأميركي العلني فإن الفلسطينيين وغيرهم كثيرين في مختلف أنحاء العالم يحاولون معرفة ما إذا كانت الحملة الحالية المدعومة من الولايات المتحدة لاستئناف محادثات الشرق الأوسط ستؤدي إلى مفاوضات جادة أو أنها ستكون مجرد عمل من شأنه أن لا يؤدي إلى أي شيء.
اقترحت الولايات المتحدة مؤخراً مجموعة من الخطوات بما في ذلك أن تفرج إسرائيل عن الناشطين في حركة فتح وكذلك تنظيم محادثات غير مباشرة لثلاثة أو أربعة أشهر.
وبهدف الالتفاف حول عدم وجود تجميد كامل، فإن المحادثات غير المباشرة متوقعة أن تركز فقط على حدود الدولة الفلسطينية. والفكرة هي أنه إذا تم الاتفاق على هذا الأمر فإن عقدة المستوطنات لن يكون لها أي معنى لأن المستوطنين في داخل حدود الدولة الفلسطينية سيكون عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا سيعيشون في فلسطين أو العودة إلى إسرائيل.
هناك طلب فلسطيني واحد لم يوافق عليه الأميركيون وهو أن تعترف أميركا بدولة فلسطينية إذا ما فشلت المحادثات القادمة، وهذا الرفض ينبع من حقيقة أنها تعتقد أن مثل هذا الالتزام سوف يزيل أي حافز للفلسطينيين للمشاركة في عمل جدي من الأخذ والعطاء الذي من المفترض أن يكون محور المفاوضات، والفلسطينيون يخالفونهم في الرأي مصرّين على أنه بعد 43 عاماً من الاحتلال غير المشروع وفشل تطبيق اتفاقات عدة، بما في ذلك اتفاق أوسلو وخريطة الطريق، فإنه من المفترض أن تركز المحادثات على التنفيذ بدلا من أي مزيد من المفاوضات، وبدون هذا الالتزام، فإن الفلسطينيين يخشون أن تفقد إسرائيل الحافز للتوصل إلى اتفاق من شأنه أن يتطلب منهم التخلي عن أراضٍ فلسطينية.
إن حلاً وسطياً، على ما يبدو، قد تم التوصل إليه في هذا الصدد، حيث التزم الأوروبيون بالاعتراف الأحادي الجانب بدولة بحكم الأمر الواقع في فلسطين في غضون 18 شهراً.
ومقترح آخر للتغيير هو أن يكون الأميركيون هم المفاوضون بشكل مباشر هذه المرة، بغض النظر عما إذا كانت المحادثات مباشرة أو غير مباشرة، وقد رفضت إسرائيل ولفترة طويلة السماح للولايات المتحدة أو أي طرف آخر أن يكون لها مقعد على طاولة التفاوض.
إذا نجح الأميركيون في جهودهم الحالية، فسوف يكون هناك ثلاثة مستويات من المحادثات: محادثات إستراتيجية بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومن المقر في نفس الوقت، أن تقام محادثات بين كبار المفاوضين مثل صائب عريقات، رئيس فريق التفاوض لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعلى مستوى مماثل مع المفاوض الإسرائيلي، ويتمثل المستوى الثالث بالمسائل العملية، وتشمل رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض مع وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، ويمكن لهذه المجموعة الأخيرة من المحادثات، التي بدأت باجتماع فياض/باراك في مؤتمر هرتسليا (Hertzilya) الأخير، أن تكون مثيرة للاهتمام في ضوء خطط فياض لبناء البنية التحتية ومؤسسات الدولة الفلسطينية خلال الـ 18 شهرا المقبلة.
في حين أن العديد من التحركات المذكورة أعلاه تعطي انطباعاً جدياً حول إنجازات لجنة ميتشل وفريقه التي تجرى خلف الكواليس، فإنه من الصعب أن نرى تقدما حقيقيا على أرض الواقع في ضوء تصرفات الحكومة الإسرائيلية الحالية.