أيديولوجيا الاستثمار

أيديولوجيا الاستثمار

 

منذ سنوات طويلة بدأ في الأردن ما يسمى تشجيع الاستثمار، واستثمار موارد الدولة بما يجعل حياة الناس أكثر رفاهية، ويؤدي إلى ما يسمى التنمية الشاملة، وانطلقت النداءات الصارخة وظهرت الأصوات العالية التي تنادي بفسح المجال لليبراليين الجدد، لأنهم يحملون مشروعاً اقتصادياً كبيراً، ستكون له نتائج مذهلة، وعوائد عالية، ويقوم هذا المشروع على الاستفادة من موارد الدولة واستثمارها على الوجه الأمثل، وكان ذلك أمراً مرحباً به لدى أوساط الشعب، الذي كان يطمح لمزيد من التطور والتقدم بالتزامن مع متغيرات العالم الحديث وتطوراته، وكان من الممكن أن نصل إلى نتائج جيدة لو تعاملنا مع الاستثمار بوصفه أداة للاستفادة من الموارد، وليس بوصفه عقيدة وأيديولوجيا وغاية بحد ذاته وهدفا تسعى إليه الإدارات الاقتصادية ليصبح خياراً وحيداً لا بديل عنه.

إن النظرية الاقتصادية الوطنية من المفترض أن تقوم على استثمار موارد الدولة من خلال تنميتها ومشاركتها في التنمية، وليس على استغلال الموارد واستهلاكها بحيث تستنفد كل طاقاتها ولا تستطيع الأجيال اللاحقة الاستفادة منها، ثم التعامل مع كل الموارد بقانون "السيولة"، أي أن يصبح لكل شيء ثمن، الأرض والشجر والحجر والمباني والمؤسسات، وتقاس قيمة كل شيء بحجم ثمنه المادي دون النظر إلى المتغيرات الثقافية والاجتماعية والوطنية، ومن هنا صار من السهل بيع الأرض، وبيع المؤسسات والاعتداء على الغابات، ذلك أن مبدأ السيولة الذي تعامل به الساسة قد أباح لهم التفكير المبسط في التعامل مع موارد الدولة وموجوداتها، فنظروا لها من منظور تجاري بحت، يقوم على الربح السريع والفرصة المتاحة، وهي نظرية التاجر في البورصة الذي يتعامل مع "خبطة" أرقام، وليس التاجر الذي يهتم بسمعته في السوق، وهذه العقلية التجارية هي التي حكمت السياسة في الوقت الراهن، وسيطرت على نظرية الاستثمار التي نادوا بها - في ظاهر الأمر-  من أجل رفع كفاءة الموارد لتحقيق التنمية الشاملة.

كان كل مواطن أردني يطمح أن تنعكس السياسات الاقتصادية والرهانات المالية على مستوى معيشته ومستوى دخله وطريقة حياته، وكان يتسلّح بالأمل للوصول إلى الصورة الوردية التي كان يتباهى بها عرّابو الاقتصاد وسدنة الخصخصة على شاشات الكمبيوتر والبرامج الرقمية، حيث كانت تبني قصوراً في الهواء وتعيش في العالم الافتراضي المحلّق في السماء دون النظر إلى الواقع المجتمعي ووعورة الأرض، فجاءت النتائج عكس المتوقع، واكتشف الناس أن الموارد التي كانوا يعلّقون عليها آمالهم قد ضاعت من أيديهم، بل إن بعضها لم يعد ملكاً لهم، وأن الآخر مهدد بالضياع أيضاً، وهذا ربما يفسر جزءاً من الاحتجاجات التي شهدناها مؤخراً، في حملات المقاطعة على مواقع التواصل الاجتماعي، ضد رفع الأسعار وفرض مزيد من الضرائب، حيث وجد الناس أنفسهم أمام واقع صعب، زادت فيه المديونية وزاد حجم العجز في الموازنة، فأين ذهبت كل تلك الأموال التي كان من المفترض أن تخفف من معاناة المواطنين، وتحافظ على مستوى معيشتهم على الأقل؟

لا بد هنا من الإشارة إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين الاستثمار بوصفه عملية تنموية مستمرة للموارد مع الحفاظ على وجودها ومراعاة أحوالها، وبين الاستغلال بوصفه حالة تجارية تسعى للربح السريع على حساب االموارد، وعدم مراعاة وجودها ومحيطها وبيئتها، لأن أي مورد طبيعي هو ابن بيئته، ومن المفترض أن يُستثمر ضمن الظروف التي توفرها له تلك البيئة، كما أن كل مورد هو حالة اجتماعية يشتبك مع المجتمع ويؤثر فيه، ولا بد أن يكون هناك موقف قيمي وراء استثماره والاستفادة منه، كما أنه من المهم النظر للقيمة المعنوية والاعتبارية للأشياء بصرف النظر عن القيمة المادية، فالموارد الوطنية لا تقاس بما "تسوى" كما يقال، لكن هناك ما يمكن أن يكون أهم من كل الأموال، وهو الشعور بأن هناك قيمة أخلاقية تكمن وراء الجبل وبين الأودية وفي الأرض وعلى فضاءات الساحات العامة والمتنزهات والمؤسسات والأشجار والآثار والأحجار والشوارع والحارات، لأن الانتماء الحقيقي للوطن لا يقاس بقيمته المادية بقدر ما هو تضحية تتجاوز منظور الربح والخسارة، فتبني حلول رفع الأسعار وزيادة الضرائب يؤدي إلى كساد في السوق، بسبب عجز جيوب المواطنين أيضاً.

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك