أوهام في الخصخصة

أوهام في الخصخصة
الرابط المختصر

 

لا تزال الذرائع السائدة المبررة لسطوة الخصخصة عبر العالم تعتمد على مقارنتها بالقطاع العام وخدماته سيئة السمعة، رغم أن الحقيقة المدعمة بالأدلة تثبت أن الخدمات المخصخصة معرضة أيضاً لما تعانيه الخدمات العامة من ترهل، وتدني في النوعية، وبطء في وقت الخدمة، ناهيك عن أنها ليست عصية على الفساد الذي يشكو منه القطاع العام.

 

لعل أبرز دليل على ذلك يتجلى في الموجة المتصاعدة، في كل أنحاء العالم، لإعادة خدمات تزويد المياه إلى سيطرة البلديات المحلية بعد فشل الخصخصة في تسييرها، إذ يشير كتاب صادر في هذا العام تحت عنوان "مستقبلنا المائي العام: التجربة العالمية في إعادة السلطة البلدية" إلى أن عدد الحالات التي أعيدت بها خدمات المياه إلى سلطة البلديات المحلية حتى هذا العام  يقدر بـ 253 حالة موزعة في 37 دولة عبر العالم، وأن عدد الحالات قد تضاعف بين الأعوام 2010 و 2015 مقارنة بالأعوام 2000 و 2010. ومن المثير أن أغلب هذه الحالات كانت في دول ذات دخل أعلى مثل فرنسا والولايات المتحدة.

 

ويورد الكتاب أهم الأسباب التي دفعت السلطات البلدية إلى ذلك، ومنها تخاذل الشركات الخاصة في الاستثمار في تطوير البنى التحتية، وتقديم خدمات متدنية، وتدهور نوعية المياه، وكذلك الخلافات مع الحكومة حول التكلفة التشغيلية، وارتفاع فواتير المياه، والتسبب في مشاكل بيئية متعددة، وعدم توفر الشفافية في التقارير المالية، بالإضافة إلى محدودية الرقابة وخفض القوة العاملة في هذا القطاع.

 

الحقيقة الأخرى، التي لا يعلمها أغلبنا، هي أن الخدمات العامة المخصخصة تعمل فقط بسبب الدعم والصدقات من المال العام. وبحسب مقالة صدرت، مؤخراً، عن مؤسسة تعرف "بالعدالة العالمية الآن"، فإن ما تقدمه الحكومة البريطانية، مثلاً، لدعم الشركات الكبرى يبلغ ما مقداره 85 مليار جنيه إسترليني في العام الواحد، وهذا أكثر بسبعة عشر مرة من الرقم الذي تنفقه الحكومة لدعم الباحثين عن عمل، وهو حتما أكبر مما تقدمه الحكومة لدعم صندوق تقاعد الدولة، وهو لا يتضمن الـ 850 مليار جنيه إسترليني التي تنفق من أجل إنقاذ البنوك من الإفلاس.

 

أما في الدول النامية، فتلفت تقارير دولية عدة بأن ما تخسره هذه الدول نتيجة التهرب الضريبي من قبل الشركات العملاقة يقدر بمليارات الدولارات، وأن قيمة ما تخسره الدول من هذا الباب يضاهي ما تحصل عليه من المساعدات الخارجية، وإذا استمرت الدول النامية على نهجها في تقديم الإعفاءات والتسهيلات الضريبية لهذه الشركات الكبرى منساقة إلى وهم زيادة التنافسية للاستثمار وإنعاش الاقتصاد وزيادة فرص العمل، فإنها لن تتمكن من تأمين الموارد الكافية لحل مشاكل الفقر والتفاوت بين فئات المجتمع.

 

في الأردن، مثلاً، فإنه تجري خسارة ما قيمته 650 إلى 800 مليون دينار أردني سنوياً بسبب التهرب الضريبي، وفق دراسة صادرة العام الماضي عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية تشير إلى أن من يمارسون هذا التهرب، في الغالب، هم الشركات والأفراد من ذوي الدخل المرتفع. يتضح هذا جلياً بالنظر إلى الأرقام الواردة في الدراسة نفسها، حيث شكل العائد الضريبي، في الأردن في العام 2012، ما نسبته 70% من الدخل العام للدولة، وتساهم الضريبة غير المباشرة بما نسبته 50% من الدخل العام.

 

وبالطبع، فإن الضريبة غير المباشرة المفروضة على أغلب السلع، في الأردن، متساوية على كل من الفقراء والأغنياء، والنتيجة المنطقية لهذه الحسبة البسيطة أن الفقراء ومتوسطي الدخل يدفعون نسبة أعلى على استهلاكهم للطعام والمواد الأساسية المختلفة من النسبة، التي يدفعها الأغنياء، مقارنة بالدخل المتباين للفئتين. وليس جديداً القول إن هذا الجور الضريبي لا يقتصر على الدول النامية، إنما يطال دول عدة في أوروبا والولايات المتحدة.

 

عالمياً، تصدر موضوع التصحيح الضريبي حملات المرشحين في الانتخابات الأخيرة في بريطانيا، وتنظر دولا أوروبية أخرى وإدارة أوباما إلى الموضوع نفسه بجدية. وتتجه أغلب الطروحات إلى وضع قوانين صارمة ضد التهرب الضريبي من قبل الشركات العملاقة، ورفع نسبة الضريبة التصاعدية على الأغنياء لرفد الخزينة الحكومية بالموارد اللازمة لتطوير الخدمات العامة من تعليم وصحة وغيره.

 

في ظل تراكم العجز المالي في دول عربية عدة، وعلى رأسها الأردن، يبقى اللجوء إلى الإصلاح الضريبي هو الملاذ الأخير لحل المشاكل المالية المتفاقمة، لكن يبدو أن الدولة ماضية في إجراءات معاكسة تماماً مثل قرارها المتمثل بالإعفاء الضريبي السخي الممنوح لشركة الكهرباء!

 

وسماء الحسيني خبيرة سموم في قطاع البتروكيميائيات في هولندا، وباحثة في التحركات المدنية الخلاقة التي تعمل نحو عالم أفضل.