أناقة الحروب
لا يمكن أن نحدد تماماً اللحظة التي يمكن أن تمنحنا فيها الحرب فرصة سانحة للتأمّل، لكن يمكن أن نجزم بأنّها لن تظهر بأيّة صورة مغايرة للفجيعة، فجيعة لا تنفي الحياة، بل تغيّر في أعرافها، ولغتها، ومبتكراتها، وثقافتها. ثمّ إنّ الحروب لا يشبه بعضها بعضها الآخر، كما ندّعي دائماً، إنّها تختلف وفاقاً لطبيعة المتقاتلين، وللثقافة التي أفرزتهم.
كنت سأكتب عن بضعة قصص مخفيّة في ملفّات الحرب العالميّة الأولى، لكنّني فضّلت الكتابة عمّا يخصّ الحرب العالميّة الثانية، التي كانت حرباً باذخة في توجّهاتها جميعاً، في دمارها، وضراوتها، وفي موسيقاها وأدبها، وفي أزيائها أيضاً، إذ تترك الحروب صدى رومانسيّاً غير محدود، يبدأ خجولاً ولا يتوقّف عند الحركات الأكثر تطرّفاً كما فعلت السرياليّة والهيبيّة.
حين أعلن هتلر في العالم 1939 عن قيام الحرب العالميّة الثانية، كانت نساء باريس قد استعددن جيّداً ليكنّ مجنّدات مثاليّات بمنتهى الأناقة، فصارت ثياب الشارع أشبه ما تكون بالزيّ العسكريّ الموحّد (الآرمي لوك)، بأكتاف مربّعة، وسحّابات مزيّنة، وتنانير ضيّقة، وقبّعات من الريش، وقفّازات تغطّي جزءاً من الذراع، وحقائب كتف، وأحذية مسطّحة مخصّصة للمشي، هكذا تشكّلت أناقة المقاومة التي واجهت بها الفرنسيّات هتلر حينما اعتمدن فساتين بألوان الأزرق والأبيض والأحمر، ألوان العلم الفرنسيّ، ولجأن إلى صباغ دمويّ للشفاه، وفي مساءات باريس، تجاهلن فكرة ضيق الموارد، واعتبرن أنّ الحرب شغف، وكلّ شيء فيها مباح، فاستبحن موارد العالم من الحرير الطبيعيّ في حين احتجّت الأميركيّات على تقييدهنّ بالحرير الصناعيّ في مقابل بذخ الفرنسيّات!
أراد الفرنسيّون أن يثبتوا أنّ الموضة حكر على عاصمتهم، وأنّ صناعة الألبسة الراقية لا يجب أن تنقل إلى برلين وفيينّا كما أراد النازيّون.
في ألمانيا أعلن التقشّف في اللباس، والاقتصاد في الكلفة، في حين أنّه في إنكلترة تمّ تحديد طول التنورة، وحجمها وعدد الطيّات والأزرار، فضيّقت النساء ألبستهنّ وقصّرنها بسبب أزمة القماش والمال التي أفرزتها الحرب، في حين مالت نساء العالم إلى التحفّظ في اللّباس والتواضع الذي يصير واجباً في المآسي.
لم تستجب فرنسا لمنع استخدام الحرير الطبيعيّ، الذي اقتصر استعماله على صناعة مظلاّت جنود الطائرات، وكانت فرحة إنزال طائرات العدوّ مضاعفة، إذ يتمّ السطو على مظلاّت الجنود، فتصنع منها ملابس النساء الداخليّة، رغم ما تسبّبه من حساسيّة، وكان ذلك نوعاً من استفزاز يفرضه نزوع نفسيّ بدائيّ يعترف بمعادلة السطوة والجسد.
لاشكّ في أنّ إثبات أميركا لجبروتها في الحرب العالميّة الثانية، غيّر كثيراً في ذائقة اللباس الأوربيّة، وأدخل معطيات القويّ المنتصر إلى شارع كلّ من الحليف والعدوّ، وشاعت أناقة نجمات الفنّ الأميركيّات في العالم، كما أنّ موت الرجال الألمان حمل النساء على الضلوع في أدوار قاسية في البيت والعمل، جمّدن بسببها حسّ الموضة، وملن إلى لباس العمّال المتقشّف والمريح.
الشارع يتأثّر بأناقة العدوّ طبعاً، وهذا ما نحكيه دائماً عن أناقة سيّدات دمشق وبيروت والقدس وعمّان والقاهرة في تلك الحقبة.
سرياليّة الحرب أفرزت نجومها أيضاً، من مثل سلفادور دالي وإيليسا سكاياب التي قرّرت أن تحاكي الثيابُ فعل النزوح أو اللجوء، فاللجوء انتزاع للأفراد من بيئتهم الطبيعيّة ووضعهم في بيئة مغايرة وهذا ما كانت تفعله سكاياب، إذ تنتزع الأشياء من سياقها الاعتياديّ، لتضعها في سياق مختلف، فتبدو غير أليفة، لذا صارت الأظافر ذهبيّة، والفساتين ممزّقة، والمعاطف مرقّعة، وثياب الليل الباذخة مزيّنة بأقراص هواتف، وكركدنّات، تلك الأشياء التي ننفي عنها سمة المنطقيّة، لكن من يجرؤ على أن يقول إنّ للحرب منطقاً عاقلاً! ستفرز حروبنا العربيّة أسمالاً بالية، وألبسة للرياضات الصعبة: للمشي عبر حدود غير شرعيّة، وللسباحة في عرض البحر للوصول إلى شاطئ آمن، وسترات واقية لحروق القذائف والصواريخ، ووجوهاً تحاكي وجوه المتطرّفين المشغولين بلحاهم، والتي تشتبك مع سطوة الثقافة العثمانيّة المنبعثة من قبور قبضايات أزقّة إصطنبول في أواخر القرن الثامن عشر، بشعورهم الطويلة وشواربهم المفتولة نحو الأعلى، والتي جعلت شركة جيليت للحلاقة تعيد حساباتها بعد أن اعتمد نجوم هوليوود هذا المظهر الذي يذكّر بأنّه لا وقت للحلاقة، فالرجال دائماً مشغولون بالحرب!
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.