أموال عن أموال تفرق

أموال عن أموال تفرق
الرابط المختصر

 

 

 

التبرُّع وبذل المال بدافع الشفقة تحت يافطة "العمل الخيري لوجه الله"، الذي غالباً ما يكون وفقاً لمناسبات دينيّة، وأحياناً في حُمّى مواسم انتخابات نيابية وأشباهها، سرعان ما يتلاشى ولا يترك أثراً، اللهم سوى إشهار صورة "المتبرع الكريم" بأكثر من وسيلة مباشرة وغير مباشرة، إنْ كان شخصاً أو شركة تابعة له أو لمجموعة شركاء! هذه حالة.

 

وهناك الدعم والرعاية لصالح جهات متخصصة غير ربحية، تباشرطموحات تنويرية وتنموية متعددة الأوجه، مرتبطة بالكيان الاجتماعي، ومبنيّة على رؤية استراتيجية بعيدة المدى تتطلع إلى المستقبل عبر برامج رسمتها "دراسات جدوى" تستهدف قطاعات بعينها بغية إحداث نقلات نوعية تدرجية تطال المجتمع ككل، والإنسان في هذا المجتمع.هذه حالة ثانية.

 

بين الحالتين ثمة فرق. فرق كبير يجوز تناوله في بُعد رئيسيّ كالتالي:

راهنية العمل وإضاعة فرص التأسيس والبناء عليه، زمنياً واجتماعياً، في الحالة الأولى. إذ يبقى المال محصوراً يُبَدَد في وقته ويتلاشى بين أيدي مَن وُزِّعَ عليهم، ولم يُسْتَثْمَر على نحو رشيد، كونه جاء تلبية لحاجة أو غَرَض مؤقت وشخصيّ لدى المتبرِّع والمتبرَّع له / لهم! بينما نجد العكس تماماً في الحالة الثانية؛ فالعمل تعدّى في أهدافه راهن لحظة الرعاية والدعم، متطلعاً إلى المستقبل كحاضنٍ وحاصد ومُطوِّر لجدواه، ولم يُبَدَد بقدر ما تم تحويله إلى إمكانية بناء وتنمية من أجل غايات عامة مستدامة. أيّ أنّنا حيال استثمار رشيد للمال المبذول طال قطاعات اجتماعية تؤدي خدمات حيوية للعاملين فيها. خدمات تلتقي عليها مصلحة المجتمع ككل بمصلحة الأفراد، حتى لو لم يتحركوا داخل مجالاتها المتخصصة.

 

إضافة إلى هذا البُعد الخاص بالناتج عن الأموال الآتية من الحالتين السالفتين، ومدى الاستفادة منه والإفادة به؛ فإنّ بُعداً ثانياً يتعلق بـ"الوعي أو اللاوعي الاقتصادي" تجوز لنا قراءته أيضاً فيهما، وبكيفية لا يُخطئ فيها الأذكياء. إنّ قراءة كهذه سوف تؤدي بنا إلى منطقة تستوجب المكاشفة الصريحة بلا التواء، بالسؤال المباشر:

 

ماذا نطلق على المال في الحالتين، وعلى أصحابهما؟ أهو مالٌ وطنيٌّ، أم مجرد مال يملكه مواطنون؟ واستطراداً لهذا السؤال يُطرح الجزء الآخر منه: ما معنى الوطن لدى أصحاب تلك الأموال وكيف يفهمونه؟ كيف يقومون بـ"تحريكه" وأين يدّخرونه؟ أبالاستناد إلى الربح السريع قصير النَفَس الشخصيّ، قاصر الرؤية الاجتماعية = الوطنية، أم بالضدّ الكامل لذلك؟

 

إنّ الإجابات عن هذه الأسئلة، المتولدة من بعضها بعضاً، بصرف النظر عن مدى دِقتها، تحيلنا فوراً على طبيعة التبرُّع وبذل المال في الحالة الأولى. حالة تعلن أنّ نوايا "الإحسان والتصّدُّق"، إنْ حَسنت، لن تؤتي ثماراً طيبة على المدى البعيد، اللهم سوى بعثها لـ"راحة ضمير" أصحابها في أفضل الأحوال. ودعنا من النوايا الأخرى المتمثلة في التفاخر، والتباهي، وتلميع الصورة الشخصية وإشهارها تمهيداً لتحقيق طموحات بعيدة تماماً عن نقاء العمل في ظاهره! وبذلك، تتم المتاجرة بالإحسان والتصدُّق واستغلالهما لدى أوساط اجتماعية بسيطة. وفي المحصلة، لا نخرج بتوصيف للمال المبذول على هذا النحو إلّا كونه أحد تجليات "رأس المال غير الوطني"!

 

فأن يكون المال وطنياً هو أن يُستثمّر داخل الوطن، ولصالح تنميته بعيدة الأمد، آخذاً بالاعتبار المستقبل وأجيال المستقبل. أن يتحوّل إلى مشاريع تكمل الناقص في حياتنا الاقتصادية، والعلمية، والثقافية، حيث ليس من تنمية حقيقية بمعزل عن تنمية الإنسان نفسه داخل الحلقتين الأخيرتين تحديداً: العلمية، والثقافية.

 

ولعلّ ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع، تراجع رؤوس الأموال الوطنية عن مشروعاتها الرائدة، الناجحة، التي باشرتها في ستينيات القرن الماضي لتغطّي أكثر من جانب اقتصاديّ صناعيّ متوسط. والسبب، كما باتَ معروفاً لمن دخل التجربة، رفع الحماية الحكومية عن منتوجات تلك الصناعات، بحجة المنافسة (غير العادلة طبعاً) مع المنتوجات المستوردة، ما أدّى إلى إفلاس تلك المشروعات! واستبدالها، من ثَم، بالاستثمار في مجالات الخدمات!

 

غير أنّ ترجمة حالتيْ بذل المال، المُشار إليهما، ليست هنا أيضاً.

إنّ خَبَر دعم الدكتور رؤوف أبو جابر، قبل ثمانية أيام، "مركز دراسات المرأة" في الجامعة الأردنية بمبلغ مليون ديناراً، من أجل تشييد بنائه الخاص المؤجَل لانعدام المخصصات المالية، كان السبب الدافع لهذه الكتابة. وكانت هذه الكتابة الدافع للبدء بالتفريق بين مال لا فائدة وطنية من بذله، وكأنه تبخّر في العدم (الحالة الأولى)، ومال عرف طريقه الوطنيّ فسار فيه (الحالة الثانية)!

إنه الوعيّ على وطنية المال بمعرفة كيف نستثمره، وأين، ولماذا.

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.