أمهات الشمس

أمهات الشمس
الرابط المختصر

 

كلما قرأت خبراً يتعلق بإنتاج الطاقة الشمسية في الأردن، أو يتصل بمعوقات وُضعت أمام هذه الصناعة الحيوية، سنوات عدّة، تراءت أمامي "رفيعة"، ابنة البادية الشرقية، التي وثقت تجربتها الخلاقة في مقاومة الفقر بضوء الشمس بفيلم قدّمته المخرجتان المصريتان جيهان نجيم ومنى الضيف منذ أزيد من ثلاث سنوات.

 

"الفقر يصنعه الرجل وتكتوي بناره المرأة".. هذه ليست دعاية نسوية عابرة، بل هي خلاصة الفيلم "أمهات الشمس Solar Mamas" – عرض في بعض المهرجانات بعنوان "رفيعة: أم الطاقة الشمسية"- وهو وثائقي يصور معاناة النساء، في أشد مناطق البادية الأردنية فقراً بالقرب من الحدود العراقية/ السورية، حيث يسقط الرجال المتعطلين بجبروتهم الزائف في تسلط الدولة التي تُغيّب مواسم التنمية واستدامتها.

 

يعثر صنّاع الفيلم على نموذج حقيقي لإمرأة تختبر أزمات الأردن مجتمعة. "رفيعة" الزوجة الثانية لرجل يعيش في قرية "منشية الغيّاث" - تتصدر قائمة جيوب الفقر في المملكة – ولديها أربعة أطفال لا يجدون طعاماً كافياً وتدفئة وإنارة إذ يسكنون خيمة في العراء، رغم أن والدهم متبطل عن العمل وينتظر عطف الدولة ورحمتها، وفي الوقت نفسه يعارض سفر زوجته إلى الهند للالتحاق بدورة تدريبية ينظمها معهد "Barefoot" مدتها ستة شهور لتكتسب خبرة فنية في إعداد الطاقة الشمسية مع عدد من النساء القادمات من كولومبيا وكينيا وبوركينافاسو.

 

يطرح صنّاع الفيلم تساؤلاً أساسياً: هل النساء أقدر على التخلص من الفقر مقارنة بالرجال؟، وتلتقط الكاميرا التحولات التي تطرأ على بيئة تستبطن الإقصاء والحرمان اللذان تمارسهما الدولة بحق مواطنيها، وتعكسها سلوكيات الرجل الذي يأبى أن تتعلم زوجته لتمتلك مهنة تعيل بها أولادها، لكنه يتقبل سفرها على مضض. ووفق العادات والتقاليد ستسافر رفيعة وسيدة أخرى برفقة "محرَم" سيتفرغ لحمايتهن أثناء إقامتهن في الهند، ولا ينقطع لسانه وهم متوجهون إلى المطار عن ترديد بيت الشعر الآتي: سلاماً يا دار بها العز موجود/ من أجل الوفا ملزومٍ إني أغادر!

 

وبمجرد مغادرة رفيعة يبدأ زوجها ابتزازه عبر التهديد بطلاقها ما لم تعد إليه، وتحميلها مسؤولية التخلي عن بناتها الأربع، وبذلك تضطر إلى العودة بعد أقل من شهر واحد.

 

عودة لن تلغي الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تحكم بيئتها، فالرجال أدمنوا البطالة ووعود السلطة المؤجلة لتطوير القرية، بيد أن خجل رفيعة وخوفها من زوجها والفقر انتهيا إلى غير رجعة، ومن خلال تجربتها القصيرة في الهند استطاعت أن تفكك خطاب السلطة الأبوية التي تفقد هيبتها وتأثيرها نتيجة عجزها المزمن عن تغيير الواقع وأزماته.

 

ويتوقف الفيلم عند مظاهر القوى العاجزة في مجتمع ينكر واقعه، فتُعرض صور المرشحين وبرامجهم الانتخابية المعلقة على خيام قرية هي بأمسّ الحاجة إلى قماش اليافطات لا للشعارات البرّاقة التي دُونت عليها.

 

بعفوية وصدق استثنائيين، تصرخ رفيعة أمام الكاميرا: زوجي قتل روحي، ولاستعادة روحها تقرر هدفها الوحيد المتمثل بالحصول على عمل يحقق ذاتها ويؤمن حياة أفضل: بيتاً ونوراً تجتمع حوله العائلة.

 

تنجح رفيعة في تحديها وتسافر مرة أخرى إلى معهد "حفاة الأقدام"، لتتلقى معرفة جديدة وتسرق لحظة فرح تتكثف في رقصها مع زميلاتها الأفريقيات واللاتينيات والهنديات وهي بكامل زينتها.

 

زالَ الحجاب الذي يغطي عيون رفيعة، وحملت شهادة الدبلوم إلى باديتها النائية، مسرعة لعمل أول مجسم للطاقة الشمسية لتنير مساحات العتمة الشاسعة. بعد الحصول على المنحة الهندية، نجحت أول سيدة أردنية خبيرة في مجال الطاقة الشمسية بإنارة 80 منزلا آخر في قريتها.

 

تقارير صحفية كثيرة وثقّت تجربة رفيعة، أم قمر، بينما تنتشر "أمهات الشمس" في مجتمع لا يلتفت إليهن إلاّ في مواسم عابرة يستثمر الإعلام فيها "قصص نجاحهن"، أو في تكريم عاملات ومربيات فاضلات وصلن سن التقاعد، وإصراره على نعتهن بـ"أخوات الرجال"!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك