أطباق ليست في قائمة إيزابيل ألليندي

أطباق ليست في قائمة إيزابيل ألليندي
الرابط المختصر

 

 

يمتلك الطعام إمكانيّة لتحويله من مادّة غذائيّة تخصّ الجهاز الهضميّ، وتبني الجسم، أو من شهوة تتعلّق بحواسّ ميكانيكيّة غير شريفة كما يسمّيها الفلاسفة، كالذوق، إلى متعة تخصّ الخيال وتثير الذاكرة، وتحمل القارئ على استحضار مشاعر متناقضة بين التقزّز واللذة الخالصة، وذلك حينما يصير ثيمة من ثيمات الكتابة.

 

لا تقتصر تلك الثيمة على كتابات النساء لكنّهن يُشتهرن بها، إذ حوّلت الكاتبات المهاجرات اللواتي ينتمين إلى الجيل الثالث من الكاتبات النسويّات في أميركا، المطبخ إلى وطن، وصيّرن إعداد الأطباق المحليّة نوعاً من التعويض، ونوستالجيا تجاه المفقود، وربّما تعبيراً عن صعوبة الاندماج، حتّى أطلق على هذا الجيل اسم جيل التبولة، أو ورق العنب، باصطلاح أدبيّ شائع.

 

المطبخ يتحوّل إذاً إلى معادل نفسيّ للوطن، وللبيت، ولرائحة الأمّ والذكريات. لكنّ الكاتبة التشيليّة إيزابيل ألليندي، صاحبة "بيت الأرواح" و"صورة عتيقة"، تعاملت مع الطعام بصورة فريدة نابعة من ثقافة أميركا اللاتينيّة ذات الأصول الجامحة إيروتيكيّاً. لقد وضعت كتابها "أفروديت" فأدرجت فيه وصفات للأطعمة المثيرة، والمحرّضة على الشبق. يبدو ذلك من العنوان الذي استعمل إلهة الحبّ اليونانيّة كملهمة لتلك الأطباق، والتي قد نجدها أحياناً غرائبيّة، أو مقزّزة، كما أنّ معظم مكوّناتها مفقود أو غير مألوف في الثقافة العربيّة أو  شرق الأوسطيّة، وما ذلك إلاّ بسبب االذائقة المختلفة التي أملتها الجغرافيا، فلا تشعروا بالاستهجان، وتقبّلوا جماليّات الآخر وأطباقه، وتذكّروا أن ليس علينا بالضرورة تقليد هذه الوجبات، فالثقافة العربيّة زاخرة بمثلها وبما يناسب ذائقتنا وأجسادنا، تقول ألليندي:

"هكذا أتذكّر الرجال الذين عبروا حياتي – لا أودّ التباهى فهم ليسوا كثراً – بعضهم من نسيج بشرتهم، وبعضهم من طعم قبلهم، رائحة ثيابهم، أو نبرة همسهم، والجميع تقريباً مرتبطون بطعام ما خاصّ. أكثف لذّة جسدية يستمتع بها دون عجلة فى سرير غير مرتب وسريّ، مزيج تام من مداعبات، وضحك، وألعاب ذهنية لها طعم الخبز المستطيل".

 

إعداد الوجبات الذي هو واجب مفروض على النساء، يصير ترفاً عند الرجال. لقد استخدمتُ في رواياتي كلّها ثيمة الطعام، بل جعلتها عنصراً روائيّاً رئيساً، سواء أكان دالاً على الوطن أم على جماليّات الآخر الغريب، لكنّني دائماً أسمع صوت تلك المرأة التي قالت لي يوماً: إذا أعدّ رجل طعاماً لامرأة، فهذا يعني أنّه واقع في حبّها! لذا جعلت أكثر من بطل يعدّ الطعام لحبيبته، فيصير لذيذاً بتأثير النوايا الغراميّة! في كتابه "فرصتنا الأخيرة" الذي يمكن أن نسمه بالمذكّرات، يقول الملك عبد الله الثاني عن لقائه بالصبيّة ذات الاثنين والعشرين ربيعاً، التي تحمل اسم رانيا ياسين:

"في النهاية قبلت دعوتي إلى العشاء في تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث فاجأتها بأن أعددت لها الطعام بنفسي. في البداية كان الدافع لكي أتعلم الطبخ هو الحاجة الماسة، وقديماً قيل الحاجة أمّ الاختراع . لكن فيما بعد أخذت أتمتّع به، ووجدته وسيلة للاسترخاء والترويح عن النفس. كنت قد صنعت محلياً الأدوات اللازمة لإعداد بعض الأطعمة اليابانية التقليدية مع الدجاج والقريدس ولحم البقر. مرّ العشاء على نحو جيد ...".

 

لم تذكر ألليندي في وصفاتها (الخبيزة)، ربّما لا تنبت في ديارهم، وربّما لم تلفت نظرها حينما عاشت شطراً من حياتها في بيروت! الخبيزة خبّيزتنا نحن، أمّا لماذا نحبّ الخبيزة؟! فلأنّها الطبخة التي تجيدها العمّات، ورثنها عن الجدّات اللواتي غبن قبل أن نلتقي بهنّ، لكنّهنّ دللن بها آباءنا حين قلّينها مع البصل المزروع في حديقة البيت أو في الحقل القريب، بالزيت، الذي ليس من زيتونة مباركة بالضرورة، أو بالسمن الذي ربّما كان مهدرجاً! ونحن، أي ما يخصّنا هنا، أنّ الخبيزة قد تعني وطناً...

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.