أزمة كليات الشريعة: الدولة في مواجهة نفسها

أزمة كليات الشريعة: الدولة في مواجهة نفسها

منذ ظهور "داعش" قبل سنوات، وصعود ما يسمّى "التطرّف الإسلامي" وجدت الدول العربية، بشكل عام والأردن بشكل خاص، نفسها أمام سؤال جذري عن دور الدين الإسلامي أو التربية الدينية في تغذية مثل هذا الاتجاهات لدى الشباب، خاصة إذا علمنا أن هناك حوالي أربعة آلاف متطوّع أردني يقاتلون في صفوف الجماعات الإسلامية المسلحة في سورية، وهناك آلاف المنتمين فكرياً لهذه الجماعات داخل الأردن.

وقد ظهر تأثير هذا الفكر جلياً على شكل تفجيرات واعتداءات على الأجهزة الأمنية، منذ عملية إحراق الطيار الكساسبة إلى أحداث قلعة الكرك، كما أن كثيراً من القضايا تم إحباطها قبل تنفيذها، وهناك مئات الشباب المنتمين إلى هذه الجماعات داخل السجون، وبالمناسبة فإنهم يزدادون تعصباً ونقمة وينظّمون أنفسهم بشكل أفضل خلف جدران السجن.

يبدو أن هناك توصيات داخل الدولة تحذّر من طريقة التربية الدينية التي يتلقاها الطلاب في المدارس والجامعات، وقد بدأت تظهر من خلال محاولة تغيير المناهج، تلك العملية التي لاقت مقاومة كبيرة من المجتمع ومن المعلمين أيضاً، على اعتبار أن تلك التغييرات ستكون على حساب الدين والتربية الإسلامية، ثم – كما أعتقد- أن تلك التوصيات أيضاً قد شملت كليات الشريعة في الجامعات، بوصفها أحد أهم مصادر التعليم الديني، حيث يتخرّج منها أساتذة التربية الإسلامية في المدارس، وخطباء المساجد والوعاظ، وموظفو دوائر القضاء الشرعي والإفتاء.

بدأ التفكير بالحلول لكليات الشريعة من خلال النظر للمقبولين فيها، فهناك من يرى أن الذين يختارون تخصص الشريعة هم من الطلاب الذين يحصلون على معدلات متدنية، وكان الاقتراح برفع معدلات القبول فيها، فتم اتخاذ قرار برفع المعدل إلى70 بالمئة، لكن سرعان ما تم التراجع عن القرار بسبب ضغط الكليات التي فقدت كثيرا من المقبولين فيها.

بعد شعور الدولة بأزمة كبيرة في التربية الدينية، اتخذ مجلس التعليم العالي قبل أشهر قراراً برفع المعدل إلى 80 بالمئة، مما خلق أزمة كبرى بين كليات الشريعة والمدرسين فيها من جهة، ورؤية الدولة نحو هذا النوع من التعليم من جهة أخرى، وقد ظهرت الأزمة جلية في الآونة الأخيرة حين قرر مجلس التعليم العالي الموافقة "على توصية مجلس الوزراء المتعلقة بوضع تخصصات الشريعة في الجامعات الأردنية متضمنة: توحيد مسميات التخصصات في الجامعات الأردنية بحيث تقتصر على أربعة تخصصات، وإعادة هيكلة الخطط الدراسية بما يضمن جودة المخرج الأكاديمي، وإضافة مساق واحد على الأقل ضمن المساقات الإجبارية "متطلبات الجامعة" تتعلق بالدين والوسطية والاعتدال وتقبل الآخر لزيادة الوعي ومواجهة دعوات التطرف، شريطة أن يقوم على تدريسها عضو هيئة تدريس متخصص في كلية الشريعة".

واقترح المجلس أن تكون المناهج مقرّرة خارج رؤية المدرسين العاملين في الكليات، ولذلك أصدر عمداء كليات الشريعة بيانا، أطلقت عليه بعض المواقع الإلكترونية اسم "بيان ثوري من كليات الشريعة بالجامعات الأردنية".

يتضح من لغة البيان المذكور أن كليات الشريعة تستشعر خطراً كبيراً يتهددها؛ أولاً من حيث نقص عدد الطلبة الملتحقين بهذه الكليات، وهو دفاع عن الرزق في أسبابه عير المعلنة، وثانياً استشعار بأن هذه القرارات تشكّل مقدمات لتحجيم دور هذه الكليات، ومحاولة لسحب البساط من تحت وصايتها على التربية الدينية ومرجعيتها كذلك، وسحب أي سلطة لأعضاء هيئات التدريس في فرض رؤيتهم على الطلبة من خلال عدم إعطائهم مسؤولية وضع المناهج ومقرراتها.

الأزمة التي نشهدها اليوم هي في الأساس أزمة دولة ليس لديها رؤية واضحة في التعليم بشكل عام والتعليم الديني بشكل خاص، فالدولة كانت وما زالت تستغل الدين لتمرير كثير من سياساتها وقرارتها، وكذلك لتثبيت شرعيتها وشرعية النظام الذي يتنافس مع الحركات الإسلامية على تمثيل الدين، وهو ما ذكره بيان العمداء ( أو بالأحرى ما حاول اللعب عليه) حين يقول: "وحرصاً على مقدرات ومكتسبات كليات الشريعة في بلد عربي إسلامي هاشمي يقوده هاشميون كانوا خيار من دعا إلى الإسلام، وذاد عن حماه، ولا ننس في هذا المقام أن جلالة عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه ما اعتلى منبراً دولياً إلا وكان فيه خير من تحدث عن الإسلام بصفائه ونقائه وقيمه"، وهو تذكير بشرعية الدولة الدينية التي تحميها كليات الشريعة".

أزمة الدين كما تراها الدولة وكما تحاول إصلاحه يبدو سطحياً وغير عملي، فالمشكلة ليس في رفع معدل القبول ولا في تغيير المناهج أو مراقبتها؛ المشكلة أولاً في التعليم ومناهج التعليم في كل التخصّصات وليس في الشريعة فقط، فهناك تعصّب وتهميش يمارسه الأساتذة في الجامعات، وهناك مناهج تلقين وحفظ لا قيمة لها، وقد تجاوزها الزمن.

ولا ننسى أن المنتمين إلى الجماعات المسلحة، والذين يتبنون الأفكار المتطرفة ليس أغلبهم من خريجي كليات الشريعة – كما ذكر بيان العمداء أيضاً- بل إن هتاك دراسة وجدت أن أغلب المنتمين لهذه المجموعات هم من خريجي الكليات العلمية بشكل عام، والهندسة بشكل خاص.

لكن إن تحدثنا عن كليات الشريعة فإن المشكلة تكمن في رؤيتنا للدين وتدريسه، فهل ما تطرحه هذه الكليات يدخل في باب العلوم المتعلقة بالدين والفكر الإسلامي، بمفهومه التاريخي وسياقاته السياسية والاجتماعية المتغيرة عبر الزمن؟ أم أننا ندرّس فيها أيديولوجيا الدين، بوصف كل ما نتج عنه من علوم هي حق كامل, لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبوصفه نصوصا مقدسة وأحكاما، فهمها رجال لسنا كمثلهم، ولا نصل معشار ما وصلوا إليه! فالحل ربما يكون في تحويل ما يقدم في كليات الشريعة إلى علوم قابلة للنقاش والأخذ والرد، علوم وضعها الإنسان وطوّر أدواته فيها عبر الزمن، ويمكن امتلاك أدوات جديدة لتطويرها في الحاضر والمستقبل.

أزمة كليات الشريعة هي في عمقها أزمة دولة ما زالت تحاول احتكار الدين، وترى أنه العنصر الأهم في شرعيتها، وأنه أساس قدرتها على فرض وجودها، والسيطرة من خلاله على عقول الناس وقلوبهم.

 

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك