أزمة إدارة أم إدارة أزمة?? والإعلام براء منها
أسهل الطرق لتبديد الشائعات وخطب أفئدة الأردنيين وعقولهم في معركة الإصلاح المحتدمة تمر حتما عبر بوابة الإعلام الرسمي والخاص وضرورة تشجيعه على ممارسة دوره كسلطة رابعة بدلا من محاولات رسمية متناسلة لاحتوائه وتحييده عبر الترغيب, التهديد أو اللجوء إلى البلطجة.
على أن القراءة الرسمية المتسربة من مطبخ صناعة القرار هذه الأيام تعمل عكس هذا التيار بتحريض من قوى الشد العكسي المتنفذة. لا بل تتحرك أشرعتها ضد رياح الثورات العربية المطالبة بالحد الأدنى من العدالة الاقتصادية والسياسية, استعادة كرامة الفرد ومحاكمة رموز الفساد الذين تنتفخ جيوبهم على حساب اتساع ثقوب جيوب غالبية مواطنيها.
هذه القوى تحاول إقناع الملك عبد الله الثاني, الذي عقد العزم على قيادة عملية إصلاح شامل سرّعتها أجواء التغيير, باعتماد إصلاحات سطحية لا تغيّر الاحتقان القائم الذي أدخل الحاكم والمحكوم في نفق مسدود وكشف عمق الترهل والاهتراء في مختلف مفاصل الدولة.
ينسى هؤلاء الرسميون أو يتناسون أنه لم يعد بوسع أي كان تكميم الإعلام ولجمه, وأن الاتجاه الصاعد هذه الأيام هو للإعلام غير التقليدي, تحديدا الإعلام المجتمعي الذي يحول كل مواطن إلى إعلامي بمجرد امتلاكه حاسوبا مرتبطا بالانترنت و/أو هاتفا خليويا مدعوما بتقنية التصوير. وهكذا يبتعد الشباب عن الإعلام المتكلس تحت سطوة السلطة ورأس المال لتتدفق الآراء والمعلومات عبر "الفيسبوك", "التويتر","اليوتيوب" وغيرها من الوسائط التفاعلية دون أن يقدر احد على إعاقتها.
كبار المسؤولين المحيطين برأس الدولة يسعون اليوم لتحميل بعض وسائل الإعلام مسؤولية الأزمة السياسية الطاحنة داخل مكونات الدولة الرسمية والشعبية التي تدفع الأردن صوب الهاوية, على ما ترّوج له هذه الفئة, وهي تطالب بإسكاتهم لقنص فرصة تعزيز"المدينة الفاضلة", التي يعتقدون أنهم يعيشون في كنفها حتى ينتهي الشد الداخلي وتنقشع أجواء من السلبية والتشكيك لطّخت صورة الأردن, وساهمت في تهريب مستثمرين عرب وأجانب. ويصرون في أحاديثهم إلى الملك بأنه "لا يوجد شيء كبير خربان في الأردن يتطلب الإصلاح وأن المشكلة خلقها الإعلام ومواقع الكترونية تقود عملية التحريض والتهييج الشعبي, وبالتالي فإن ترويض الإعلام المحرض وتحييده سيعيد الحياة إلى طبيعتها مع تصويب بعض الأخطاء الصغيرة هنا وهناك". هذه المهمة, بحسب هؤلاء, تتطلب "تنظيف البيت الإعلامي" داخليا وتهبيط سقف الحرية المنفلت في بعض وسائل الإعلام والأقلام "الحرة" الذي ارتفع قبل ثلاث سنوات عندما كسر إعلاميون حاجز الخوف والصمت مع اشتداد المواجهة بين قطبين أساسيين في هيكلية الدولة آنذاك.
ومع تكاثر مواقع الإعلام الالكتروني ارتفع سقف الجرأة في الوسط الصحفي وتمدد ليبدأ العمل المشروع على "نكش" ملفات ظلّت في باب الممنوعات لسنوات وباتت تثير الرأي العام, تحديدا بعد كشف"شاهين غيت" وملفات "موارد", و"سكن كريم لعيش كريم" وسلسلة مشاريع استثمارية عملاقة ومبادرات تنموية شابتها منذ اليوم الأول شبهات فساد مالي, إداري وسياسيٍٍ.
تطهير المشهد الإعلامي, بحسب ما يتسرب من أروقة صنع القرار, بات أولوية رئيسية. والتعامل مع ذلك يتطلب سن تشريعات بلغة مطاطية تعطي النتيجة المطلوبة مع الإعلام والمواقع الالكترونية دون أن تثير انتقادات المانح الأمريكي والأوروبي, الذي ما زال ينتظر قطف ثمار خطاب الإصلاح والتغيير بقيادة الملك عبد الله الثاني شخصيا. كما يتطلب تغيير ملكية بعض وسائل الإعلام, الإيعاز لتأسيس وسائل إعلام جديدة ومواقع إخبارية بديلة, ومحاولة كسب ما تبقّى من صحف وأقلام ومنابر حرة لتحسين صورة السياسات الرسمية والدفاع عن المنجزات.
وفي بعض الحالات يتم الاستعاضة عن أساليب "التدجين الناعم" بتحريك بلطجية مدعومين من جهة ما ضد زملاء وزميلات وضد الناشطين في العمل العام لشيطنتهم او لمعاقبتهم على ما نشروه أو لترويعهم وإسكات الأصوات المطالبة بالإصلاح, المراقبة والمحاسبة.
إزاء هذه المعطيات الجديدة التي تنبئ بقرب اندلاع معركة تقزيم الإعلام لتمييع التغيير السياسي الموعود عالي الكلفة, وتنامي أزمة ثقة بين الحكومة والوسط الإعلامي, يصر رئيس الوزراء د. معروف البخيت وغيره من الوزراء على عدم تجهيز تشريعات ضد الحريات الصحافية.
لكن تلك التأكيدات العلنية لم ولن تقنع معشر الإعلاميين, خاصة المخضرمين وأصحاب الحس المرهف والبصيرة. فاستقالة وزير الإعلام طاهر العدوان قبل أسابيع تشكل أقوى مؤشر على المناخ الإعلامي المتلبد. فالعدوان, الذي لطالما انحاز إلى قيم الحرية الصحافية ودافع عن سياسات تحرير صحيفة "العرب اليوم" التي ترأسها لسنوات قبل أن يصدم الكثير من محبيه بمغامرة دخول عالم السلطة التنفيذية قبل شهور, أرجع استقالته إلى رفضه للتعديلات المقترحة على قانون المطبوعات والنشر, ومكافحة الفساد والعقوبات. عدد من مشاريع القوانين أدرج على جدول أعمال الدورة الاستثنائية بعد أن رفضها مجلس الوزراء, وعدد آخر لم يطلع أحد عليه بعد لكنها ستنكشف قريبا.
رجل بوزن العدوان لا يتكلم من فراغ ولا يسعى لكسب نجومية وشعبوية في الشارع من خلال اللعب على وتر الضحية. فنقاؤه ومهنيته معروفة للكثيرين, وبخاصة في الوسطين الإعلامي والسياسي. وهو صاحب قلم نظيف وموقف غير قابل للتفصيل على قياس رغبات أي كان.
ذلك لا يعني أن البيت الإعلامي الأردني ليس بحاجة إلى غربلة وتنظيف, كما أنه لا بد من وجود قوانين أكثر وضوحا تحمي حقوق الجميع, إعلاميين ومتلقين للمعلومة وتحمي من التشهير غير المسنود بأدلة موثقة. لكنها يجب أن لا تمنع حق النقد المباح لصالح المجتمع. فهناك أمثلة كثيرة على انعدام المهنية في العديد من الصحف الرسمية والخاصة, وفي بعض المواقع الالكترونية. الكثير منا عايش أساليب ضغط وابتزاز تمارسها بعض المواقع من أجل التكسب بعيدا عن أخلاقيات المهنة. معطوفا على ذلك سياسة تطفيش الإعلاميين المهنيين وتحويل العديد منهم إلى موظفين مرعوبين يفضلون إتباع سياسة "أمشي الحيط الحيط ويا رب سترك وعفوك", لتجنب إغضاب رجال غالبيتهم هبطوا بالباراشوت السياسي والأمني على مناصب إعلام حيوية. هؤلاء يسيرون مطبوعاتهم إرضاء لرغبات أسيادهم بعيدا عن هدف الإعلام النبيل وضمان تمتع جيوش العاملين لديهم بالكرامة, العدالة والأمان الوظيفي فضلا عن رفع مستوياتهم المهنية وصقل مهاراتهم اللغوية والمعرفية.
من يدعي بأن ترويض الإعلام هو مفتاح حل الأزمة مخطئ ويقدم نصائح مغلوطة لرأس الدولة ويبني مواقفه على أوهام. فالإعلام ينقل الخبر ولا يخلقه. يكشف قضايا فساد ويراقب عمل الحكومات. ولو لم تخرج مسيرات تطالب بمحاسبة الفساد وإصلاح النظام, تسريع عملية التحديث لما استطاع الإعلام اختلاق هذه المسيرات والدعوات. الإجهاز على ما تبقى من استقلالية الإعلام على منوال قتل ما تبقى من مصداقية السلطة التشريعية واستقلاليتها عبر عمليات التزوير لن يسهم إلا في مزيد من الاحتقان وتوسيع أزمة الثقة بين الحكم والشارع, كما انه لن ينهي الاحتقان الداخلي ويوقف المسيرات الشعبية التي عادت بقوة خلال الأسابيع الماضية, بعد أن استشعر القائمون عليها محاولات لوقف قطار الإصلاح الذي تضمنه خطاب الملك قبل شهر. ما يخدم أردن الغد بقيادة أسرة هاشمية يلتقي على حبها وشرعيتها كل الأردنيين, بناء إعلام وطن محترف قادر على الوصول إلى المعلومات ليشكل حلقة وصل بين الشارع والحكومة, ويعكس آراء القوى الحزبية والمجتمعية المشروعة. إعلام يشكل صمام أمان إذ يكشف هدر الأموال والفساد والتلاعب بمقدرات الوطن من جهة ويعمل على نقل الممارسات الايجابية من جهة أخرى. وما يخدم الأردن تعزيز مفهوم المسؤولية الأخلاقية والمهنية برغبة ذاتية من القطاع الإعلامي. فالصالح سيطرد الطالح. وبقايا الإعلاميين المستقلين سينتقلون إلى مواقع إعلامية أخرى لمواصلة عملهم.
من هنا يجب أن ينظر إلى الإعلام كجزء من الحل وليس عنوان الأزمة. بخلاف ذلك سينقلب السحر على ساحر ترويض الإعلام وتحييده مثلما انقلب السحر على رأس من ساهم في تزوير إرادة الناخبين وتفتيت الولاية العامة
للحكومة وتداخل الوزارة بالبزنس وإضعاف القضاء.
العرب اليوم