بعد قدح شرارة الربيع الأردني -بإيجابياته وسلبياته- بات واضحا اليوم أن الكرة الوحيدة في ملعب الإصلاح، تحولت إلى عملية تحول سياسية-اقتصادية ممنهجة على مدى ثلاث سنوات، وفق خريطة طريق جديدة حدّدها الملك في خطاب العرش، في افتتاح الدورة البرلمانية يوم الأحد الماضي.
تلك خلاصة الرسالة التي وصلت للقوى الموالية والتيارات المعارضة -بما فيها الإخوان المسلمون وعناقيد ما تبقى من "الحراك الهلامي"- مدعومة بسلسلة إجراءات استباقية أظهرت انتصار العصب المحافظ، الذي يوظف العشائرية، من الأصول والمنابت كافة، في فرض رؤيته.
فالخطاب الملكي يعكس في ثناياه تحررا من ضغوط القفزات السريعة نحو الإصلاح، بعيدا عن المعطيات التي فرضها على الأردن الرسمي تحدّي ما كان يعرف بـ"الربيع العربي" مطلع العام 2011، قبل أن يستعيد (الأردن الرسمي) توازنه، خصوصا عقب انحراف المسار الثوري في مصر وسورية وتونس وليبيا صوب العنف وعدم الاستقرار، المرفوضين من الجميع.
حسنا إذن، القيادة تحررت من ضغوط الداخل والخارج، ليتم شق طريق صوب "تفصيل" أنموذج أردني على مستوى الإقليم.
جميع مكونات الدولة تشترك في مسؤولية فشل طرح بديل مقنع لبرنامج الإصلاح السياسي الرسمي المتدرج والمبرمج، ما وفّر أريحية لدى صانع القرار، بعد أن مرّت بخير موجة الربيع الأردني، ليس بسبب تقادم الوقت، بل لمرونة صانع القرار وحنكته السياسية في التعامل مع التحديات، ورهانه المسبق على فشل التغيير الثوري.
أسباب التحول الأخير عديدة.فعلى الأرض، لم يبق حراك، "بل حراكيون". فأهم رموزه إما التقطوا "الجزرة"، أو هم قيد المحاكمة بتهمة تقويض النظام.
والأحزاب التقليدية فشلت، كعادتها، في اجتراح برامج بديلة لمواجهة التحدّيات الاقتصادية والسياسية على نحو يشحذ همم الأغلبية الصامتة، المحشورة بين خيار حزب السلطة أو الإخوان؛ التيار الذي تصرف بأنانية وتسلط ليتصدر الحراك الشعبي ومحاولا فرض أجندته، مستأسدا بصعود نجم الإسلام السياسي في دول التحول.
في السياق، انتكس التيار المدني الديمقراطي والليبرالي الذي بدأ يتشكّل رافعا لواء دولة المواطنة والحاكمية الرشيدة، لتغيير المفاهيم السائدة وبناء هوية وطنية عصرية بعيدا عن المحاصصة الجغرافية والعشائرية، وهي أساس المعادلة السياسية.
تجربة الانتقال إلى حكومة برلمانية -كما أرادها الملك- لم تنجح. كان ذلك متوقعا لكل من يفهم أبجديات السياسة، بسبب ضمور الأحزاب التقليدية، وهشاشة الكتل البرلمانية، وسيادة الفردية وطغيان الذات، وعجز الالتزام الكتلوي والائتلافي عن فرض إيقاعه على مجلس النواب.
وأغلبية الشعب ما تزال منقسمة حول الهوية، ما يخلق عدم توافق حيال الإصلاح السياسي. ويظل الأردنيون بين مطرقة الأمن وسندان البطالة والفقر وارتفاع الأسعار والفساد المستوطن. وتهاوى أيضا ما تبقى من دور للسلطة الرابعة في المراقبة والمساءلة. يتجلى ذلك في سيل انتقادات تعرضت لها الحكومة أثناء مناقشة تقرير الحريات في مجلس حقوق الإنسان في جنيف مؤخرا؛ إذ بدا ملف الأردن متخما بتجاوزات غير مسبوقة، مسّت قانون المطبوعات والنشر، ومحكمة أمن الدولة، وتقييد حرية التعبير، ومعاملة النشطاء وغيرهم في مراكز التوقيف.
وفي غمرة الفوضى التي تخلخلت المنطقة منذ ثورة تونس، تحول تركيز الدول المانحة الرئيسة -مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- من نصيحة الإصلاح إلى أمن الأردن واستقراره.
اليوم، يعود النهج التقليدي المحافظ ليسيطر على مفاصل الدولة الرسمية: الجهاز البيروقراطي، ومجلس الأمّة، والمربع الأمني، بعد خروج طاهر المصري؛ آخر رموز الإصلاح الحقيقي. وبالتالي، خفت الصوت المكتوم القادم من رحم المؤسسة الرسمية، بحسب قراءة قوى وطنية إصلاحية وأحزاب معارضة.
لكن يؤمل أن لا تغشي نشوة الانتصار على عيون أصحاب القرار، وتدفعهم إلى دفن الرؤوس في الرمال، مستغلين فقدان توازن قوى المعارضة التقليدية والحراك، إلى جانب الردّة عن التحول في مصر والعنف في سورية. فالأمور على الأرض صعبة ومعقدة.
فقد تراجعت شعبية د. عبدالله النسور وفريقه الوزاري بعد مرور 200 يوم على تشكيل حكومته؛ بل وتهاوت لتحطّم الرقم القياسي لسلفه د. فايز الطراونة. والأخطر أن نسبة كبيرة (64% من العينة الوطنية ترى أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ، نتيجة غياب شعور الناس بإمكانية تحسن الاقتصاد.
وضع البرلمان ليس أفضل حالا، رغم أنه جاء بعد التعديلات الدستورية وإقرار قانون انتخاب جديد أبقى على الصوت الواحد مع بعض مساحيق التجميل. فنسبة الثقة الشعبية في أداء البرلمان لم تتخط حاجز 31 % في جميع مسؤولياته.
فعنوان القنبلة الموقوتة التي "تتكتك" في أحضاننا: اقتصاد وعدالة مجتمعية. هذه الثنائية أهم لدى رجل الشارع من وضع أسس جديدة تريدها أقلية نخبوية لممارسة الحكم، بعيدا عن معايير عصرية تأخذ بالاعتبار المحاذير الداخلية وتراجع سيادة القانون.
فبعد كل السياسيات غير الشعبية التي تنفذها حكومة د. النسور لضبط عجز الموازنة وتخفيض الإنفاق، لم يتحسن كثيرا وضع الموازنة. ورغم كل قرارات رفع الأسعار، فإن الإيرادات المحلية لا تغطي سوى 85.9 % من النفقات الجارية. وتبدو مؤشرات الدين العام مقلقة للغاية، لأنها ستقفز إلى 79 % من الناتج المحلي الإجمالي أواخر هذا العام، رغم ارتفاع احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي.
في المقابل، لم تقدم الحكومة رسالة موازية للشعب، توقد لديه شعلة أمل بانتعاش اقتصادي وتحسن أحواله، تتعدى إصرار الرئيس على رفع الأسعار وتقليص الدعم.
لن تستقيم الأوضاع الاقتصادية والمالية ما لم تنخفض النفقات الجارية. لكن هذه معادلة شبه مستحيلة، اذا لم يتم تخفيض حوالي 800 مليون دولار من بند النفقات المستترة التي لا تخضع لرقابة مجلس النوّاب. فالاعتماد على المنح الخارجية ودول الخليج لم يعالج مشكلة المديونية. وقد تختلف مقاربة الحلفاء العرب والغربيين في حال تغيرت ظروف المنطقة السياسية. واستمرار اللجوء إلى جيوب المواطنين، بما كسّر دعائم الطبقة الوسطى -عماد الاستقرار والتقدم- وألحق مساحات منها بطبقة الفقراء المسحوقين، ما هو إلا لعب بالنار. وأزمة الطاقة قنبلة موقوته أخرى، تحتاج إلى معجزة؛ حال العاطلين عن العمل وغالبيتهم شباب تائه.
عود على بدء.
كلاكيت.. المشهد الأخير في مسلسل الإصلاح
اليوم، يجد الأردنيون أنفسهم أمام مناقشة جديدة لـ"أبجد هوز" الإصلاح، تستدعي دعم مجلس الأمّة والحكومة وسائر مكونات المجتمع.
العناوين المطروحة حيوية ومفصلية: تطوير قانون الانتخاب، وقانون الأحزاب لتأسيس أحزاب برامجية تعزز مفهوم الحكومات البرلمانية؛ وتطوير قانون البلديات واستكمال مشروع اللامركزية؛ وتعديل تشريعات بحيث تنسجم مع التعديلات الدستورية، بما فيها قانونا محكمة أمن الدولة واستقلال القضاء.
المؤسسات الرسمية كسبت الجولة الأولى في معركة الإصلاح، والتي ترى فيها القوى المحافظة خطة متقدمة، بينما تنتقدها تيارات المعارضة باعتبارها ردّة عن الإصلاح، استغلالا للاستحقاقات الإقليمية في سورية وفلسطين. كما ترى فيها استدارة مستترة نحو حقبة الأحكام العرفية التي أُلغيت قبل عقدين.
الكرة اليوم في ملعب أغلبية مكونات المجتمع والأحزاب الجديدة والتقليدية، للتعامل مع التغيرات الموعودة في حدود خريطة الطريق؛ آخر طبعة. فهل ينجح المكون السياسي المدني في إسماع صوته، والمشاركة في وليمة الإصلاح؟
الغد