المجتمعات لا تستعيد عافيتها بالقرارات او الاجراءات، ولا بالنوايا الطيبة والامنيات، وانما تستعيدها بتجديد حيويتها، وبناء أفكار تناسب تطورها، وهي لا تستطيع ان تفعل ذلك الا اذا تحررت من «العقد» التي تجمّد امكانياتها، وتعيق حراكاتها، وتكرس داخلها القيم المغشوشة وأوهام التقدم وثقافة التواكل والقعود والانانية.
في مجتمعنا ثمة «عقد» لا بد ان نتحرر منها اذا اردنا ان نخرج من مرحلة المراوحة والانتظار الى مرحلة اليقين والفرج، منها عقدة الخوف، فنحن ما زلنا مسكونين بالخوف من شبح الماضي، ومن نذر المستقبل، نخاف من «التغيير» ونخشى من التجديد، لدينا القدرة – الآن – على انتقاد الحكومات لكننا لا نجرؤ على انتقاد «عجزنا» الذي تركها تفعل بنا ما تشاء.. الخوف يجعلنا اقل رغبة في «التغيير» واكثر قبولاً للواقع، واحرص ما نكون على امساك العصا من الوسط.
عقدة الاحساس بالانقسام والتشتت – ايضاً – تطاردنا، صحيح ان لعبة «الثنائيات» لم تتجاوز حقول السياسة الى مهادنا الاجتماعي، لكن الصحيح ايضاً أننا ما زلنا نشعر بأن مجتمعنا غير «موّحد» وأن اهواءنا ليست واحدة، وان مزاجنا العام يمكن العبث به، كل هذا ولّدته سياسات خاطئة، انتجت شعوراً عاماً بوجود ازدواجية في الخيارات، وافتراق بين المكونات، وطلاق صامت بين مختلف الاطراف.
عقدة «المظلومية» التي كرست داخل مجتمعنا الشعور «بالهزيمة» والبحث عن «المنقذ» وانتظاره حتى لو تأخر، ودفعتنا الى العزلة احياناً والى ردود الفعل غير المحسوبة احياناً اخرى، وعمقت فينا جراحات كان من الواجب أن تندمل، وجعلتنا نشك بكل شيء، ونتردد في فعل المطلوب.
عقدة «الوهم» هذه التي افرزتها انطباعات غير صحيحة في غياب الحقائق، وارقام واحصائيات ليست دقيقة لتطمين الناس على حاضرهم، ورغبة داخلنا للتغطية على «الفشل» وصناعة «الخصم» وافحامه بدل الحوار معه، ورؤية الصورة من الزاوية التي تعجبنا، والهروب من الازمات الى حلول مغلوطة، وشراء «الامل» من دون أن يكون له أي رصيد.
عقدة «تجريح» الذات، وتكسير الرموز والتيئيس من القدرات والامكانيات، والهروب الى الماضي والاستغراق فيه، وتنامي قابلية «الطاعة» والاستسلام والقناعة «بقلة» الحيلة، والتحرر من الواجبات والالتزامات، والانكفاء والعزوف عن المشاركة في العمل والهم العام، والتجرد من روح المغامرة.
عقدة «الفردانية» فنحن كافراد لدينا كفاءات وطاقات تعمل وتنجح، لكننا نكره «الاجتماع» ونخشى من «التنظيم» ونشكك في الجماعات، ونؤمن بالعمل «الفردي» ونهرب من «المؤسسية»، سياساتنا يصنها افراد ويهدمها افراد، تديننا يقوم على الخلاص الفردي، جهودنا تنصب في خدمة «الافراد»، أما المجال العام فآخر ما نفكر فيه.
عقدة «الازدواجية» فنحن نرفض الشيء ونقبله معاً، ونحن نقول الشيء ونفعل عكسه احياناً، افكارنا مشوشة، وكأن داخلنا اشخاصا «متشاكسين»، لا نعرف ماذا نريد حقاً، ولا الى اين نسير، كثيرون منا «شتموا» المناصب الرسمية ثم وقعوا في «احضانها»، نحن مع المعارضة ونحن ضدها، مع الاحزاب ولكننا لا ندخل فيها، مع الإصلاح ومحاربة الفساد لكننا سرعان ما «نكفر» به وندافع عن «الفاسدين» متى ما كانوا اقرباءنا.. وهكذا.
الخروج من هذه «العقد» والمشكلات الطارئة على شخصيتنا ممكن، لكن هذا يعتمد على رعبتنا بالاعتراف بها ومواجهتها وبناء المناخات السياسية المساعِدة على تجاوزها.. وصولاً الى تصالح مجتمعنا مع ذاته.. واقناعه بأن الحل فيه، وبأنه – وحده – القادر على التغيير.
الدستور