الإعلام المجتمعي ورسالتُه في ظل الرقمنة والذكاء الاصطناعي

الرابط المختصر

برز الإعلام المجتمعي كإعلام محلي مستقل يعمل لصالح الجمهور دون هدف للربح، حيث صُمّم ليعكس هموم الناس وينقل أصواتهم، لا سيما أولئك الذين غابت أصواتهم عن الإعلام التقليدي.

عربيا انطلقت فكرة الإعلام المجتمعي بقوة من الأردن فقد انطلقت في عمّان قبل 25 عاماً إذاعة «عمّان نت» أول إذاعة إلكترونية ومجتمعية عربية، مؤسِّسةً مفهوماً جديداً للإعلام المجتمعي محلياً وعربياً للتحول لاحقا لراديو البلد عبر أثير الـFM تحت مظلة شبكة الإعلام المجتمعي.

يعتمد الإعلام المجتمعي على قيم الثقة والصدق والتشارُك المجتمعي، ولا ينحاز لأي أجندة خارج مصالح الجمهور. وبهذا المعنى، فإن جوهر الرسالة يكمن في خدمة المصلحة العامة والبحث عن الحقيقة بموضوعية، مع الالتزام بالاستقلالية المهنية وعدم فرض ضغوط خارجية.

لقد قيل بحق أن «قوّة الإذاعات المحلية لا تكمن في التكنولوجيا، بل في الثقة»، وهو ما شكل البوصلة الأولى في كل نشرة وبثّ، فكانت العلاقة مع المستمعين مبنية على المصداقية والإنصاف الدائم.

من هذا المنطلق، نؤمن في شبكة الإعلام المجتمعي التي اعتز بأنني فرد منها بأن الإعلام المجتمعي ليس منبرا سردياً فحسب، بل فضاءً للحوار والتبادل المعرفي. ولذلك كان 85% من محتوى إذاعتنا مكرّساً للشأن المحلي وقضايا الناس اليومية، مع تخصيص مساحة واسعة للاستماع لجميع الفئات (بما فيها الأطفال والنساء والشباب)، بعيداً عن أي تجميل أو تحريف للوقائع.

كما حرصنا على إدماج الموسيقى والأصوات المحلية ذات المضمون الهادف كجزء من رسالتنا الإعلامية، وتعزيز قيم الحوار والتسامح. إن هذا الالتزام بنقل ما يعيشه المجتمع بكل تنوعه كان أساساً لبناء إعلام مجتمعي مسؤول يثقف المواطنين ويعزز روح المواطنة بينهم.

ورفدًا لدورنا المجتمعي، نعمل على بناء القدرات الإعلامية من خلال برامج التعليم والتدريب المتخصصة. نفتح أبواب المحطات لطلبة الإعلام والجمهور العام، نوفر لهم الإرشاد العملي والمهني، ونعلمهم أخلاقيات العمل الصحفي من الشفافية إلى التوثيق. فالإعلام المجتمعي يرى رسالته تتجاوز البرامج اليومية لتشمل نقل الخبرة والأمانة إلى جيل جديد من الإعلاميين الواعدين.

وقد أسهم هذا النهج في تخريج صحفيين واعدين يشغلون اليوم مناصب قيادية في وسائل إعلام محلية وإقليمية، حاملين معهم قيم الاستقلالية والصدق التي تعلموها معنا.

في الوقت نفسه، يواجه الإعلام المجتمعي تحديات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي. فقد أحدثت الوسائط الرقمية ثورة في طريقة تفاعلنا مع المعلومات؛ فمنصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية جعلت الاتصال أكثر كفاءة وشخصية، لكن ذلك أتاح أيضًا لسلاسل خوارزمية وذكاء اصطناعي متطور نشر محتوى بسرعة لم يسبق لها مثيل، بما يشمل الأخبار الزائفة والذوات الدعائية التي يمكن أن تُستغل للتأثير في الرأي العام بشكل ضار.

وفي ظل هذا الواقع، يزداد إلحاح الإعلام المجتمعي على التمسك بمبدأ المصداقية واستخدام التقنيات الرقمية لتعزيز الدور التشاركي والجمع بين السرعة والدقة، لا لتحسين التلاعب الإعلامي. ويعني ذلك الاستثمار في مهارات صحفية جديدة واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول لدعم سبل التواصل، مع الحفاظ على المصداقية التي تميزنا.

تأتي أهمية هذا الحوار بالذات في مؤتمر «الإعلام المجتمعي في العصر الرقمي» الذي تنظمه شبكة الإعلام المجتمعي في عمّان يومَي 15 و16 تشرين الثاني/نوفمبر 2025. ويحتفل المؤتمر بعيد تأسيس إذاعة عمّان نت قبل خمسة وعشرين عاماً، ويتوقع أن يجمع نحو 300 مشارك من داخل الأردن وخارجها، بينهم أكثر من خمسين خبيراً دولياً من الإعلام والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية وصنّاع القرار.

يهدف المؤتمر إلى إبراز الدور الحيوي للإعلام المجتمعي في تعزيز الشفافية وتمكين الفئات المهمشة ودعم التغيير الاجتماعي، كما سيناقش التحديات القانونية والمالية التي تواجه القطاع، ويبحث سبل استدامته وتعزيز التعاون مع المجتمع المدني. وفي محاوره الرئيسية المعلنة، يركّز المؤتمر بشكل خاص على تمكين المجتمعات عبر تضخيم أصوات المجموعات غير الممثلة في الإعلام التقليدي، وتشجيع الإصلاحات الداعمة لاستقلالية الإعلام المجتمعي، بما يضمن استمراره كمنصة متاحة للجميع.

الإعلام المجتمعي يمكنه تمكين الأفراد ومنح الفئات المهمشة منصة للدفاع عن حقوقها والسعي لتحقيق العدالة. فمنذ انطلاق مسيرتنا، كان لدمج شرائح المجتمع المهمشة في محطتنا أثرٌ واضح في تغيير أجندة النقاش العام وطرح قضايا كانت مغيبة، بدءًا من الريف واللاجئين وصولاً إلى قضايا المرأة والشباب.

ونحن ندرك أن منح هذه الأصوات مساحة هو التزام أخلاقي ومهني يصنع فارقاً في حياة الناس ويرسخ قيم العدالة. وقد شكل هذا المبدأ – متجسداً في برامج مخصصة ومبادرات إعلامية شبابية – جزءًا أساسياً من الرسالة التي قطعناها مع مجتمعنا.

يبقى الإعلام المجتمعي في صلب تجربة إعلامية تحاول صنع تغيير حقيقي وشامل. فهو ليس مجرد ناقل للخبر، بل بنّاء لمجتمع واعٍ قادراً على الحوار والنقد، ومُخاطبٌ بقصصه وأحلامه. إن مؤتمراً مثل مؤتمر عمّان القادم يمثل فرصة جدية لإعادة تصور مستقبل هذا الإعلام، وضمان أن يبقى وسيطاً يؤمن مشاركة الجميع وحقوقهم في الوصول إلى المعلومات، لا سيما في هذا العصر الذي نحتاج فيه إلى صحافة حرة ومسؤولة أكثر من أي وقت مضى.