كيف وصلنا إلى هنا؟ ورقة بحثية تناقش الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الأردن بين إصلاحات صندوق النقد والأداء الحكومي
شهد الأردن في العشر سنوات الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأردنيين، حيث بلغت نسبة الفقر نحو 24% في آب 2021 بحسب تقديرات لوزارة التخطيط والتعاون الدولي، كما شهدت معدلات البطالة ارتفاعاً ملحوظاً لتصل إلى 22.8% في نهاية الربع الأول من العام 2022 بعد أن كانت قد وصلت إلى حاجز الـ25% في نهاية الربع الأول من العام 2021، بحسب ارقام دائرة الاحصاءات العامة. يضاف إلى ذلك تواضع جودة الخدمات العامة المقدمة للأردنيين مثل التعليم والصحة والنقل، والتي تعد روافع أساسية للحالة الاقتصادية والاجتماعية للشعوب ومن اهم العوامل للحفاظ على الطبقي الوسطى. على مستوى التعليم، فإن درجات طلبة المدارس الأردنيين في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA) تعد متدنية بالنسبة لأقرانهم على مستوى العالم، حيث كان أداء الطلبة الأردنيين اقل من الوسيط العالمي في كافة المباحث (الرياضيات والعلوم والقراءة). أيضاً، يبين تقرير مؤشر رأس المال البشري 2020 أن 52% من الطلاب في سن 10 سنوات في الأردن يعانون من "فقر التعلم". أي أن "52% من الأطفال في سن العاشرة لا يمكنهم قراءة واستيعاب نص بسيط في نهاية المرحلة الابتدائية، وهذه النسبة أعلى من متوسط فقر التعلم في المنطقة (48%) ومن متوسط مجموعة دخل الأردن (38%)".
| الدرجة الأردنية | الوسيط العالمي |
القراءة | 419 | 466 |
الرياضيات | 400 | 468 |
العلوم | 429 | 458 |
كذلك، فإن مؤشرات الصحة العامة في الأردن تدل على تراجع الوضع الصحي للأردنيين. مثلاً، يعاني نحو 51% من الأردنيين فوق سن الخمسين من مرض السكري، كما يعاني ثلث أطفال الأردن من فقر الدم، بالاضافة إلى معاناة 43% من النساء ضمن الفئة العمرية 15-49 من فقر الدم، بحسب مسح السكان والصحة الأسرية 2017-2018. وبالتالي، فإن الأردن يعاني من وضع اقتصادي واجتماعي صعب يتطلب زيادة حجم وكفاءة الانفاق على الخدمات العامة للارتقاء بمستواها.
كيف وصلنا إلى هنا؟
عادةً ما يفسر المحللون والمراقبون للوضع الاجتماعي والاقتصادي في الأردن هذا التراجع إما بضعف السياسات الحكومية أو بسياسات صندوق النقد الدولي. ولكن، فإن اعزاء التراجع الحاصل لأي منهما على حدة يعد تسطيحاً لواقع الأمور، بالإضافة إلى عدم دقة ذلك علمياً. حيث يعد التراجع الحاصل مزيجاً بين العديد من العوامل التاريخية والسياسية وأخرى مرتبطة بالإدارة الحكومية والسياسة المالية واصلاحات صندوق النقد المرتبطة بها، بالإضافة لضعف شبكة الحماية الاجتماعية. وتعد العوامل السياسية مثل الادارة الريعية للاقتصاد، والعلاقة الريعية التي حاولت الحكومات المختلفة ادارة المواطنين من خلالها كبديل عن بناء حياة ديموقراطية من اهم العوامل في اضعاف قدرة الدولة على ادارة مواردها بشكل كفؤ.
أولاً، الاعتمادية على الريع الخارجي كمصدر اساسي لتمويل التنمية المحلية. اعتمدت الحكومات الاردنية المتعاقبة خلال المئوية الأولى من عمر الدولة على الريع الخارجي كمصدر أساسي لتمويل المشاريع التنموية، حيث مثلت الفترة (1967-1989) ذروة العصر الريعي في تاريخ الدولة الأردنية، إذ شكلت المساعدات الخارجية نحو 44.7% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي في عام 1979 مثلاً، كما شكل متوسط المساعدات الخارجية نسبةً إلى الناتج المحلي الاجمالي نحو 23.7% في الفترة (1970-1979) ونحو 17% في الفترة (1980-1989). وتعد هذه النسب مرتفعة جداً مقارنة بما يحصل عليه الأردن من مساعدات خارجية، إذ شكل المتوسط السنوي للمساعدات الخارجية نسبة للناتج المحلي الاجمالي خلال الفترة (2010-2019) نحو 5.4% من الناتج المحلي الاجمالي. وقد أدت الاعتمادية الكبيرة للدولة الأردنية على المساعدات الخارجية خلال ما يطلق عليه بالفترة الريعية من عمر الدولة (1967-1989) إلى توسع كبير وغير مبرر بالأنفاق التنموي والجاري على حدٍ سواء. حيث وصلت نسبة الانفاق العام إلى الناتج المحلي الاجمالي نحو 40% من الناتج المحلي الاجمالي خلال الفترة (1967-1989). وهذا ما أدى بدوره إلى عدم قدرة الدولة على استدامة الموارد اللازمة للإنفاق على الجانب التشغيلي الذي ترتب على التوسع التنموي خلال الفترة الريعية. وبالتالي، أدى ذلك إلى تراجع ملحوظ في القدرة المالية للدولة، وبالتالي الحاجة إلى برامج اصلاح مالي لاحقاً: عادةً ما كانت تقشفية تقتضي ازالة الدعم عن بعض السلع والخدمات العامة ورفع الضرائب على وتخفيض الانفاق العام.
ثانياً، كان للجانب السياسي من ادارة الدولة لعلاقتها مع المواطنين دوراً رئيسياً في إضعاف القدرة المالية للدولة على الأمد الطويل، حيث كان التراخي الحكومي في فرض وتحصيل الضرائب والتقليل من حجم الاقتصاد غير الرسمي، بالإضافة إلى التوسع بالإعفاءات الضريبة سمة عامة للعقد الاجتماعي الريعي السائد في ذلك الحين. على سبيل المثال، تجاوزت اعتمادية الدولة على المنح الخارجية نسبة اعتماديتها على الايرادات المحلية في بعض السنوات خصوصاً في سبعينيات القرن المنصرم، وهذا ما خلق تشوهات هيكلية حاولت الحكومات معالجتها مع صندوق النقد الدولي بعد الازمة الاقتصادية في عام 1989. بالإضافة إلى ذلك، فإن ادارة العلاقة الريعية اضعفت من قدرة الدولة على بناء شبكات حماية اجتماعية قوية تساعد في تحمل الناس للضغوط الاقتصادية الناتجة عن الاصلاحات المالية وسياسات التقشف المرتبطة بها، حيث كان الانفاق العام مبني على اعتبارات جهوية ومناطقية غير مدروسة مما أدى إلى تبديد موارد الدولة بدلاً من تأسيس شبكات حماية اجتماعية تحسن من قدرة المواطنين على تحمل الصدمات الاقتصادية.
ترتب على الاعتمادية المذكورة أعلاه ضعف هيكلي في قدرة الدولة الأردنية على تحصيل الضرائب، حيث بلغت نسبة الإيرادات الضريبية (الجهد الضريبي) نحو 14.8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019، أي أقل من النسب التي تحققها العديد من دول المنطقة، بما في ذلك مصر (15.4%)، وتركيا (17.1%)، والمغرب (22.3%)، وتونس (22.8%). بالاضافة إلى ذلك، عانى الأردن من تشوهات في هيكل الايرادات الضريبية، إذ باتت تشكل متحصلات ضريبة المبيعات نحو 70.6% من اجمالي الايرادات الضريبية، مقابل 16.8% يتم تحصيلها من الشركات الكبرى (المساهمة العامة والبنوك)، و4.1% من ضريبة الدخل على الموظفين، ونحو 1% على فئة اصحاب الاعمال والعاملون في مهن حرة.
كما نتج عن توسع الدولة والقطاع العام، اضعاف للقطاع الخاص وقدرته على النمو والمنافسة، وبالتالي اضعاف لقدرة المتوسطة في بناء ومراكمة الثروة، وبالتالي الترقي الاجتماعي، وهذا أيضاً – لو أُنجز – من المفترض أن يعزز من استدامة الموارد الضريبية للدولة.
ثالثاً، نتيجة لكل ما سبق، وما نتج عنه من ضيق للسعة المالية للدولة، اضطرت الحكومات المتعاقبة للجوء لصندوق النقد الدولي للحصول على المساعدات المالية والتقنية التي تمكنها من انجاز برامج الاصلاح المالي والهيكلي المطلوبة لتجاوز العجوزات المتراكمة في موازنة الدولة وتحسين السعة المالية للدولة. ونصت هذه الاتفاقيات على نوعين من الشروط، وتنقسم هذه الشروط إلى ما يسمى بمعايير الاداء الكمي والتي تمثل توجب على الحكومات ان تحقق مستويات محددة من الايرادات الضريبية والاحتياطيات الاجنبية والعجز في الموازنة العامة وغيرها. بالإضافة إلى ما يسمى بمعايير الاداء الهيكلي والتي تشتمل على اصلاحات مؤسسية وتشريعية تعد ضرورية لتحقيق اهداف برامج الصندوق. وتنقسم برامج الأردن مع صندوق النقد الدولي إلى مرحلتين. كانت الأولى خلال الفترة 1989-2004 وتضمنت هذه الاتفاقيات سلسلة من الإصلاحات النقدية والمالية والتجارية التي شملت رفع الدعم عن السلع الضرورية، والخصخصة، وتحرير القطاع المالي. وبعد انتهاء هذه الحزمة عادت الحكومات الاردنية إلى اتباع سياسات توسعية خلال الفترة 2004-2010 مما أدى لإضعاف قدرة الاردن على تحمل الضغوطات والصدمات الاقتصادية التي ترتبت على الربيع العربي. وأدت هذه الازمات إلى لجوء الأردن لصندوق النقد الدولي مرة أخرى بعد العام 2011، إذ تم توقيع ثلاثة برامج مع الصندوق منذ آب 2012. وشملت الاصلاحات التي ترتبت على هذه البرامج اصلاحات في قانون ضريبة الدخل ومراجعة هيكل ضريبة المبيعات والعمل على رفع كفاءة دائرة ضريبة الدخل والمبيعات في مكافحة التهرب الضريبي، بالإضافة إلى اصلاح التعرفة الكهربائية ومعالجة الخلل الحاصل في دعمها، ورفع الدعم عن الخبز، بالإضافة إلى العمل على رفع الدعم عن المياه.
نتيجة لما سبق، أدت هذه الاصلاحات والتي تزامنت مع تراجع النمو الاقتصادي في الأردن نتيجة سوء الادارة الحكومية للاقتصاد بالإضافة إلى العوامل المرتبطة بالإقليم إلى اضعاف القدرة الشرائية للمواطنين وبالتالي اضعاف قدرتهم على الترقي الاجتماعي والادخار. وفي الواقع، لا يمكن تجاوز هذا الواقع المعيشي من دون العمل على زيادة حجم وكفاءة الانفاق على قطاعات التعليم والصحة، حيث ان الاردن ينفق على التعليم نحو 3.35% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تقل عن نسبة الإنفاق في المغرب (5.3%) وتونس (6.6%)، واقل من المتوسط العالمي للإنفاق الحكومي على التعليم والبالغ نحو 4.4%. كذلك فإن وزارة الصحة تحصل على 7.1% فقط من موازنة الدولة وهذا يعادل نحو 2.04% من الناتج المحلي الاجمالي (هذا الرقم يرتبط بمستشفيات وزارة الصحة والمراكز الصحية ولا يشمل الخدمات الطبية الملكية). ولزيادة الانفاق على هذه المجالات وتحسين فرص النهوض الاجتماعي للأردنيين فإنه من الضروري العمل على اعادة النظر بأولويات الانفاق العام وزيادة المرونة المالية للدولة، حيث شكَّل الإنفاق العسكري عام 2020 28.6% من إجمالي نفقات الحكومة، كما استهلكت خدمة الدين العام نحو 17.8% و13.6% من إجمالي الإنفاق العام لموازنة الحكومة الأردنية لعام 2020. وعلى المنوال نفسه، شكَّلت أجور موظفي الخدمة المدنية الأردنية عام 2020 نحو 18.1% من إجمالي نفقات الحكومة. بالتالي، فإن مجمل الانفاق العام في الأردن يذهب لبنود مجهولة أو بنود خالية من الرقابة النيابية (مثل الجانب العسكري والأمني)، وبالتالي فإنه من المهم اعادة النظر في اولويات الانفاق والعمل على ادارة الدين العام بطريقة تجعل الدين العام أكثر استدامة واقل استهلاكاً لموارد الدولة.
- الورقة بالتعاون والشراكة مع مكتب تونس لمؤسسة فريدريش إيبرت، من خلال مشروعه الإقليمي سياسات اقتصادية من أجل عدالة اجتماعية,