كيف أثرت السياسات الاقتصادية الرأسمالية على واقع قطاع الصحة في الأردن؟
يتكأ السبعيني توفيق على رأس ابنه خالد، وهما يجلسان في مقاعد الانتظار في المستشفى، يحاول أن يقاوم نعاسه الذي سببه تعب المرض وتعب الانتظار، فمرة يردد أدعية الاستغفار، ومرات متتالية يسأل ابنه ما إذا موعد دخوله إلى غرفة الطبيب قد اقترب، وفي كل مرة كان جواب ابنه: "لسى يابا!".
لم يحصي السبعيني أبو خالد عدد ساعات انتظاره هو وابنه لدخوله إلى غرفة الطبيب حيث موعد الكشف عن حالته المرضية في الكلى، لكنه استطاع أن يخمن أن ساعات الانتظار كانت طويلة جداً، من خلال عشرات المرات التي كان يتركه ابنه فيها ويتوسل إلى الممرضات بإدخال والده، بسبب آلامه التي لا تحتمل ، وبعد أن جاء الفرج، ودخل إلى غرفة الطبيب اكتشف أنه كان ينتظر أربعة ساعات متواصلة، على موعد كان قد حصل عليه قبل شهور!
مشهد غرفة الانتظار التي كان فيها أبو خالد، هو مشهد يكاد يكون محفوراً في الذاكرة البصرية لدى أغلبية الأردنيين، إن لم يكن كل الأردنيين، فهو من الصور الحية الحاضرة باستمرار في الأردن، مثلها مثل الإشارات الضوئية، وأزمة دوار الداخلية، وغموض حركة الباص السريع، هي الثابت الدائم داخل المستشفيات الحكومية، التي في كل مرة وكل يوم تذكر المواطن الأردني أن حقه في الصحة الذي كفله دستوره، لا يحصل عليه بعدالة، بل هو أبعد ما يكون عن العدالة.
Radio Al-Balad 92.5 راديو البلد · كيف أثرت السياسات الاقتصادية الرأسمالية على واقع قطاع الصحة في الأردن؟
وبالإضافة إلى كفالة الدستور الأردني للحق في الصحة لكافة المواطنين، كذلك صادق الأردن في العام 1975 على العهد الدولي الخاص للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والذي يتضمن الحق في الصحة والرعاية الصحية الكريمة، ومن يتوقف عند مصطلح "الكريمة" عند الحديث عن الرعاية الصحية، يجد أنها لا تشبه طوابير انتظار المرضى والمراجعين في المستشفيات الحكومية، بل تتنافى معها تماما.
وهو ما اتفق عليه مختصون ومراقبون في حديثهم خلال إعداد هذا التقرير، الذين أكدوا أن الرعاية الصحية الكريمة والحق في الصحة في المستشفيات الحكومية، تعاني من غياب العدالة الاجتماعية فيها، الأمر الذي يؤثر على نوعية الخدمات الصحية التي تقدم للمرضى.
"نقص الكوادر الطبية، كثرة أعداد المراجعين، سوء توزيع موازنة الدولة المخصصة للقطاع الصحي، ترهلات إدارية"، وغيرها من العوامل التي أجمع عليها المختصون فيما يتعلق بأسباب غياب العدالة الاجتماعية في النظام الصحي المقدم للمواطنين في المستشفيات الحكومية، خصوصاً عند مقارنتها مع الخدمات المقدمة في المستشفيات في القطاع الخاص.
وبحسب رأي عضو لجنة المتابعة في حملة "صحتنا حق" الدكتور عصام الخواجا، فإن هناك فرق بين "سوء الخدمة" وتقديم الخدمة للمرضى في المستشفيات الحكومية، فهناك جانب اسمه "الضغط الشديد، الذي تعمل في ظله مختلف الكوادر الطبية ، فعمل الكوادر الطبية بمختلف مستوياتها وتخصصاتها وصل إلى حدودٍ حرجة ، بسبب تزايد الطلب على الرعاية الصحية في مستشفيات وزارة الصحة من قبل متلقي الخدمة ، وهذا يجعل الكوادر الطبية بمختلف تخصصاتها تعمل بأكثر من طاقتها البشرية ، وتقدم الخدمات في ظل النقص المتواتر في عدد الأسرة نسبة إلى الطلب عليها".
ويشير الخواجا إلى أنه وحسب آخر تحديث احصائي ومجمل التقارير الإحصائية السنوية الصادرة عن وزارة الصحة ، يتبين تراجع عدد الأسرة لعدد السكان من 18 سرير لكل عشرة آلاف مواطن قبل حوالي عشر سنوات إلى 14 سرير لكل عشرة آلاف مواطن ، شاملاً الأسرة في كافة القطاعات الصحية (عام وخاص وجامعي).
ويتضح ذلك بشكل أكبر في العاصمة عمان – إقليم الوسط – التي تضم قرابة 4.8 مليون مواطن ، وعند حساب عدد أسرة مستشفيات القطاع العام (وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية) في العاصمة عمان ، نجد أنها بحدود 3261 سريراً (حسب آخر تحديث إحصائي 2021)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن استخدامها لا يقتصر على سكان العاصمة ، بل أن جزءاً مهماً من سكان إقليمي الشمال والجنوب يستخدمونها لتلقي العلاج التخصصي غير المتوفر في مناطقهم.
ويضيف الخواجا أن هذا يعني أن عدد أسرة القطاع العام للمواطنين تقل عن 7 أسرة لكل 10000 مواطن وهي نسبة متدنية جداً مقارنة بالحد الأدنى المطلوب لتلبية رعاية صحية علاجية لائقة وجيدة تضمن العدالة. هذا إضافة إلى أن مستشفيات القطاع العام وبشكل خاص مستشفيات وزارة الصحة تعاني من نقص حرج في بعض التخصصات الدقيقة كاختصاص جراحة الأوعية الدموية على سبيل المثال.
وشدد على أن النقص الشديد في أعداد الكوادر التمريضية حيث وحسب المجلس التمريضي الأردني يجب أن يتوفر ممرض أو ممرضة لكل 4 – 5 مرضى قسم ، وممرض أو ممرضة لكل مريض في العناية الحثيثة ، بينما واقع الحال يقول بأن الممرض أو الممرضة يضطرون لتقديم الرعاية التمريضية لضعفين أو ثلاثة أضعاف وأحياناً أكثر من أربعة أضعاف هذا العدد ، وما يترتب على ذلك من ضغط وصعوبات عمل جمى ستنعكس بالضرورة على نوعية الخدمات المقدمة.
وعزا الخواجا أسباب أخرى لغياب العدالة الاجتماعية في منظومة القطاع الصحي التي اعتبرها أنها جذر المشكلة في تفاقم حالة عدم التوسع في البنية التحتية وعدم زيادة الأسرة لتستجيب للطلب المتنامي ، والنقص المتفاقم في عدد من الاختصاصات الدقيقة والفرعية ، يكمن في مراوحة موازنة وزارة الصحة في مكانها نسبة إلى الموازنة العامة للدولة ، والتي تحوم حول نسبة 6% من الموازنة العامة ، وهذه النسبة تحددها إملاءات صندوق النقد الدولي وسياساته الليبرالية الجديدة التي توصي وتملي بتقليص النفقات على القطاعات الخدمية والاجتماعية وفي مقدمتها قطاعي التعليم والصحة بهدف تعزيز فرصة الاستثمار من قبل رأس المال الخاص في هذه الخدمات ، ما يعني تكريس مفهوم الربحية عند تقديم خدمات هي في صلب واجبات الدولة التي تجني أكثر من 70% من واردات موازناتها من الضرائب بشتى أنواعها.
وقال: "إن القبول بسياسات ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين في صياغة النهج والسياسات الاقتصادية والموازنة العامة للدولة وبنودها هو السبب الرئيسي في التقليص في انفاق الحكومة على القطاع الصحي العام الذي تزداد معاناته ومعاناة قواه البشرية"، منوهاً إلى ضرورة التمييز بين موازنة وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية التي تحتاج إلى زيادة من جهة ، وبين الانفاق على الرعاية الصحية التي تحتاج إلى ترشيد وضبط بسبب دخول عنصر القطاع الخاص الذي يرفع فاتورة الانفاق الصحي بسبب هامش الربح الفاحش الذي يحققه من التعامل مع تقديم الرعاية لصحية كسلعة ؛ سواء فيما يتعلق بأسعار العلاجات ، أو أجور الاقامة ، أو بدل استخدام الأسرة والحاضنات ، والمداخلات التشخيصية والعلاجية ، وأسعار المستهلكات الطبية وغيرها ، ما يؤدي إلى تضخيم غير مبرر في فاتورة الإنفاق الصحي ويجعلها تقترب من نسبة 8% من الناتج المحلي الإجمالي ، وهذه النسبة تستخدم للتضليل وتبرير عدم زيادة موازنة وزارة الصحة والخدمات لطبية الملكية.
تتلاقى وجهة نظر الخواجا مع الدكتور هشام البستاني، الذي بين أن حصة الموازنة العامة المخصصة للقطاع الصحي "غير كافية لبلد مثل الأردن فبكل اسف الجزء الأكبر من الموازنة يذهب الى القطاعين العسكري والأمني، كلها تقتطع من قطاعات رئيسية في البلد على رأسها الصحة من ثم التعليم، وهما آخر قطاعين لم ينالهما الخصخصة وما زالوا متاحين بشكل مجاني للمواطنين ضمن محددات معينة".
ويضيف البستاني أن وجزء كبير الفساد جزء كبير من الأموال العامة غير متاحة للاستثمار بحقوق المواطنين، فمشاريع الاستثمار ترفد الدولة بميزانية كبيرة لكن لا يتم توزيعها بعدالة بسبب الفساد والتبعية.
المتمثلة باملاءات صندوق النقد الدولي من خلال الاتفاقيات معه سببها الديون المترتبة على الأردن والتي أوصلته إلى أرقام فلكية بالتالي هناك شروط من الصندوق تعيق الاستثمار وتطوير القطاع العام تأتي بصيغة رفع أسعار ورفع الدعم وانخفاض الخدمات العامة، وبالتالي تترتب أعباء كبيرة على المواطن.
ووفق وجهة نظر الخبير الحقوقي في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أحمد عوض، فإنه نستطيع القول وبشكل ملموس وباعتراف الحكومة والمجتمع المدني والمراقبين والأطباء جودة الخدمات الصحية التي تقدمها الحكومة في المستشفيات تراجعت بشكل ملموس في السنوات الماضية وذلك بسبب عاملين وهما السياسات التقشفية التي فرضها صندوق النقد الدولي على حكوماتنا المتعاقبة والتي كانت تتساهل في عدم زيادة الانفاق على القطاع الصحي العام بشكل يتواءم مع زيادة الطلب عليه.
أما العامل الثاني فهو لا توجد فاعلية في الإنفاق، ففي الموازنات الموجودة حاليا في وزارة الصحة لا توجد كفاءة في الإنفاق على الصحة العامة، بحيث في الوقت الذي نحن نتقشف في تعيين الأطباء والأخصائيين نتوسع في تعيين مئات الموظفين في مهن ليست ذات أهمية، وهناك معلومات تتحدث ان هناك عشرات ينفق عليهم رواتب شهرية وجزء منهم لا يداومون كل يوم.
والحلول بحسب رأي عوض هو مزيد من الحوكمة في إدارة القطاع الصحي بكل ما تعني من كلمة، سوء في الشفافية في التعيينات وسيادة قانون، والرقابة المشددة على آليات العمل، إضافة إلى إعادة توجيه بعض أوجه الإنفاق وزيادة الموازنة المخصصة للأطباء.
وعن موقف المركز الوطني لحقوق الإنسان، اعتبرت ميسرة أعمال مفوضية الحماية في المركز الدكتورة نهلة المومني، على الرغم من الجهود المبذولة من قبل وزارة الصحة لتطوير وتحسين الخدمات الصحية والطبية المقدمة للأفراد، إلا أنه ووفق التقرير السنوي للمركز الوطني لحقوق الإنسان الثامن عشر فقد رصد المركز مجموعة من التحديات في بعض المستشفيات والمراكز الصحية.
أبرزها وجود نقص في الكوادر الطبية في بعض المستشفيات والمراكز الصحية والتفاوت في مستوى جودة الخدمات بين المستشفيات وعدم توفر المعينات والأدوات الطبية الخاصة بذوي الإعاقة وكبار السن على سبيل المثال لا الحصر (الكراسي المتحركة والمؤشرات الأرضية الخاصة بذوي الإعاقة البصرية (التكتايل) والعكازات والأحذية الطبية والجبائر) وعدم وجود التسهيلات البيئية والتيسيرات اللازمة للأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن في معظم المستشفيات والمراكز الصحية وطول أمد الانتظار عند تلقي العلاج أو صرف الدواء، بالاضافة الى الازدحام الشديد أمام العيادات والصيدلية والمحاسبة والمختبر والأشعة، ما يشكل عبئاً إضافياً على المرضى خصوصاً ذوي الإعاقة وكبار السن.
التعاون والشراكة مع مكتب تونس لمؤسسة فريدريش إيبرت، من خلال مشروعه الإقليمي سياسات اقتصادية من أجل عدالة اجتماعية,