عن الشام وأطفالها
أنا من جيل تربت غالبيته على حب الشام، وتعلقت قلوب أبنائه بالشام، والشام هنا تعني بالنسبة لنا سوريا الطبيعية بمكوناتها الجغرافية المعروفة تاريخياً (فلسطين، الأردن، سوريا، لبنان) قبل أن تعمل سكاكين مؤامرة (سايكس – بيكو) تمزيقا بها، وقبل أن يظلنا زمانا صرنا فيه أشد خطراً على الشام من سكاكين (سايكس- بيكو)، عندما أفنينا قرناً من الزمان ونحن ندافع عن الأشلاء التي صنعتها تلك السكاكين، وهو دفاع أخذ مسميات كثيرة، لكنها كلها خداعة، مثل الاستقلال الوطني، والسيادة، والحدود الوطنية، والقرار الوطني المستقل.
وبذريعة الدفاع عن هذه المسميات الخادعة، ظلت الأمة تزداد يوما بعد يوم، وهنا على وهن، واستسلاما يُسلم إلى ما هو أبشع منه، حتى صارت الاستعانة بالأجنبي للدفاع عن الاستقلال الموهوم، والحدود المزعومة، أمراً مستساغاً عادت من ثقوبه كل جيوش الاحتلال الأجنبي إلى بلادنا بطلب من (حكوماتها الشرعية) كما يزعمون ومع عودة جيوش الغزاة إلى بلادنا وبطلب منا، ذهبت أدراج الرياح كل تضحيات الآباء والأجداد لنيل استقلال بلادنا، وفي مقدمتها الشام قلب العروبة النابض، و رمز حضارتها وسيادتها، فالشام في ضميرنا نحن أبناء بلاد الشام رمز للنقاء العربي والحضارة العربية الخالصة، والحكم العربي النقي قبل أن يختطفه الأعاجم بالمكيدة والمؤامرة وتحت عناوين مختلفة، والشام في ضميرنا أيضا هي حاضنة أجمل ما في عاداتنا وتقاليدنا من نخوة، وحمية، وكرم، ونصرة للمظلوم، وانحياز للفقراء والمساكين في أروع صور التضامن والتماسك الاجتماعي في واقع الناس ووقائع حياتهم اليومية، وليس في المسلسلات التلفزيونيةالتي تعلقنا بها لأنها تذكرنا بأجمل ما كان فينا. ولأن الشام تمثل في ضميرنا نحن أبناء الشام كل ماهو نقي، فقد ظلت قلوبنا على الدوام معلقة (بالفيحاء) عاصمة الشام التاريخية التي كانت نفوسنا ترتاح فيها، مثلما ظلت قلوبنا معلقة بها، من هنا تنادي أجدادنا نحن أبناء هذا الجزء من بلاد الشام، إلى نصرة (الفيحاء) يوم اجتاحها الفرنسيون وأنزلوا علم مملكة فيصل عن مبانيها، فكان قدوم عبدالله بن الحسين استجابة لنداء رجالات الأردن، الذين حوَّلوا بلادهم إلى قاعدة لتحرير (الفيحاء) ولإعادة بناء المملكة العربية، التي اجتاحها المستعمر، على هذا الأساس كان تجديد بيعة الأردنيين (لآل البيت) بعد بيعتهم الأولى لهم مع انطلاقة الثورة العربية الكبرى التي نحتفل هذا العام بمئويتها، ومع هذا الاحتفال نستذكر كل أحلام رجالات الشام بمملكة عربية موحدة قوية مستقلة، وهي الأحلام التي تبدو الآن بعيدة المنال بسبب كل ما نعيشه كأمة وما تعيشه (الفيحاء) على وجه الخصوص من ويلات، دمرت الكثير من مقوماتها الحضارية، مثلما أصابت أبناء سوريا في مقتل، عندما شردتهم في بقاع الأرض يهيمون على وجوههم طلبا للأمان والمعونة الذي ظن عليهم بهما بني جلدتهم، وآخر صور هذا التشرد الذي يشكل صرخة إدانة لكل واحد فينا نحن أبناء الأمة العربية على وجه العموم، وأبناء بلاد الشام على وجه الخصوص، ما تناقلته الأنباء عن عزم الحكومة البريطانية الشريكة في مؤامرة «سايكس بيكو» إيواء وتبني ثلاثة آلاف طفل سوري، وهو خبر يشكل صفعة على وجه كل عربي. فهل ضاقت بلادنا على اتساعها عن إيواء أطفالنا والعناية بهم، وقد يكون من بينهم من ينتهي اسمه بأسماء بعض عشائرنا وعوائلنا مثل (التل) و(الزعبي) و(الطباع) و(البطيخي) و (البارودي) و(بدير)، فهذه العائلات الأردنية لها امتدادات دم ونسب في الزبداني ودمشق وحلب وغيرها من مدن سوريا المنكوبة بتخلي أبناء أمتها عنها قبل ابتلائها بجيوش الاحتلال وبقطعان التكفيريين، وقد يكون من بين الأطفال الذين ستأويهم بريطانيا بعض ذوي قُربَتِنا وآرحام منا الذين ضاقت بلادنا بهم ففتح لهم المستعمر بلاده!
ألم يعد في بلادنا من المحيط إلى الخليج من أصحاب الثروة، والمال من يهب لإنقاذ أطفال سوريا من الذوبان في حضارة غير حضارتهم، وفي تقاليد غير تقاليدهم، وفي بلاد غير بلادهم، ومن يضمن أن لا يعود هؤلاء الأطفال ذات يوم إلى بلادهم غرباء يقاتلون أهلها ويعملون على المزيد من تمزيقها والنيل منها؟ ومن يضمن أن لا تتحول غصة أسر هؤلاء الأطفال إلى ضغينة وحقد على كل ما هو عربي بعد أن تخلى عنهم كل العرب؟
هل وصل موت الحس عندنا، أننا بعد أن صرنا لا نبالي ونحن نشاهد تدمير المعالم الحضارية للشام بكل ما تعنيه لنا الشام من دلالات دينية وثقافية وفكرية وتاريخية، وبعد أن لم نعد نكترث أيضاً لأعراضنا وهي تسبى وتعرض في أسواق النخاسة على يد داعش وغير داعش، هل وصل موات الحس عندنا أننا صرنا لا نبالي لأطفالنا وهم يُخلعون من عروبتهم بعد أن خُلعوا من أحضان أمهاتهم، ولا تتحرك فينا مشاعر إنسانية وهي تستمع إلى صراخ أطفال سوريا وهم يُنتزعون من أحضان أمهاتهم، ويقذفون إلى ما وراء البحار والمحيطات، فإلى أين نحن سائرون وقد وصل بنا الهوان إلى هذا الحد وموات الحس إلى هذه الدرجة؟