النصرة في إدلب
خرجت إدلب من جحيم النظام الأسدي لتسقط في جحيم الإرهاب. سيطرة جبهة النصرة عليها هزيمةٌ للنظام. لكنها ليست نصراً للشعب السوري. فالسوريون لم يثوروا على بطش البعث وقمعه ليخضعوا للجهل والظلامية. وجبهة النصرة إحدى عناوين الإرهاب في المنطقة. هي امتدادٌ للجهل القاعدي. وهي توأم داعش العقائدي تشترك وإياهُ في الظلامية رغم أنها تتصارع معه على المصالح والنفوذ.
لكن أحداً لم يقرع الجرس حين سقطت إدلب بيد القاعدة. التحالف العربي الدولي الذي تبلور حلفاً ضد الإرهاب غائبٌ لا فعل له ولا أثر. وحتى الائتلاف الوطني السوري رحّب بسيطرة النصرة على المدينة، في موقفٍ يعكس حجم اليأس وعمق الضياع اللذين تقهقرت إليهما الأزمة السورية.
بشكل متسارع، بات الشعب السوري أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العيش تحت همجية نظام دمر البلد ودفعه نحو المأساة التي صارها، وإما الخضوع لمنظمات إرهابية مجردةٍ من إنسانيتها، وتستهدف زجهُ في ضيق ما قبل الحضارة فكرياً وحياتياً.
وفي تلك الأثناء تتراجع أهمية الأزمة السورية إقليمياً ودولياً. الولايات المتحدة مهووسةٌ بمحادثاتها النووية مع إيران على حساب كل ملفٍ آخر في المنطقة. الرئيس أوباما، الذي وسَمَ الفشل كل سياساته الخارجية، يبحث عن إرثِ نجاحٍ يظنٌّ أنّه وجده في الصفقة النووية مع إيران.
وفوق ذلك، فهو يحاول تخفيف تبعات فشله في العراق لأن قراراته أسهمت في تدهور وضع كانت أميركا استثمرت في بنائه. لذلك يركز على العراق انتهاجاً لتكتيكٍ واهنٍ يُهمل ترابط الأزمات الإقليمية، واستحالة عزل مآلات الأمور في العراق عما يجري في سورية. ماذا سيحدث حين تتمكن النصرة أكثر وتتجذر إمارة الموت التي تبنيها؟ لا يبدو ذلك سؤالاً ضاغطاً في حسابات واشنطن الآن. فبالنهاية، تلك قضية لا ضرر في دفعها أسفل سلم الأولويات، ذاك أنّ ضحاياها سوريون لا وزن لهم في الحسابات الكبيرة.
لكن رغم ضخامة ثمن إهمال الأزمة السورية إقليميا، تزايداً في أعداد اللاجئين وانتشاراً للإرهاب وتجذراً لليأس والقهر عند ملايين الأطفال الذين سيشبّون على الغضب، لا بوادر لأي تحركٍ عربيٍ للبحث عن حلٍ يوقف الانهيار.
فالأزمات تتسارع وتتفرع في كل الاتجاهات، ما خلط الأولويات بشكل يُنبئ أنّ القادم أسوأ. العراق ينتصر على داعش لكنه يتمزق مذهبياً. اليمن انضم إلى قائمة الأزمات الحرجة وفرض نفسه أولويةً عند السعودية. ليبيا استحقت موقعا على قائمة الدول الفاشلة، وصراع النفوذ الإيراني-التركي سيتفاقم في بلاد العرب وبمعاونة بعضهم.
من بين أسوأ منتجات هذا التشعّب في الأزمات هو النزوع إلى فقدان الصورة الشمولية. ومكمن السوء أن فصل الترابط بين الملفات وفق ضغوطاتها الآنية لا يلغي هذا الترابط، بقدر ما يجعل من حسم أي قضية أمرا مستحيلا.
وهذا ما تعكسه الأحداث في سورية الآن. تتمكن النصرة في سورية لتنسف لاحقاً كل ما سيكون قد أُنجز في محاربة الإرهاب، لتبدأ الكرّة من جديد.
أزمات المنطقة واحدةٌ في جذورها. والحل لن ينجح إلا إذا كانت مقاربات التعامل معها شاملة. هذا هو الغائب في المعالجات الراهنة للأزمات. ولذلك ستزداد الأوضاع تعقيداً، لا تنتهي مأساةٌ حتى تتفجّر أخرى.