وقفة مع ياسر قبيلات
تقف هذه الزاوية، مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. هنا وقفة مع القاص والروائي الأردني ياسر قبيلات وما يظنّه "الجريمة الأكثر فداحة في العالم".
* ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- في الحقيقة، لا أكفّ عن التفكير بشيء لن تواتني الشجاعة على فعله؛ أعني تنظيم عملية سطو مسلّح على بنك كبير. والخروج منه بأكداس من الأوراق النقدية. أكداس كبيرة لا تسعها شقتي. كانت هذه العملية ستكون أنبل ما يمكنني القيام به! وأتخيّل في الأثناء أنني سأضطّر لتعيين محاسب شاب ليعدّ هذه النقود الكثيرة، إلى درجة أنه سيبلغ سن التقاعد قبل أن يعدّ ربعها.
عدا عما سبق، وباعتبار أنني رب عائلة "مسؤول"، وبما أننا والحمد لله نعيش في مجتمع ذكوري حميد يُرضي رب العباد، فإنه يخطر ببالي أن أطلّق زوجتي في عيد الفالنتاين على سبيل الهدية، ثم أعود وأتزوّجها انتقاماً منها.
وهناك طبعاً الكثير من الأفكار البنّاءة الأخرى التي تخطر لي، ولكني مضطّر، بسبب افتقاري للشجاعة اللازمة، إلى إشغال عقلي بالكتابة؛ وفي هذا السياق أنجزت الفترة الماضية كتابين: "بوتين: قصّة حياة وسيرة مهنة"، وآخر بعنوان: "وقت للزعيم ليفكّر: ماو في ضيافة ستالين".
* ما هو آخر عمل صدر لك، وما هو عملك القادم؟
- أعتقد أن الإصدارات هي شأن القارئ، أما أنا فشأني يتعلّق بما لم أنشره. أشياء مثل: "أقوال كلب ضال" و"تنبيه للمرّة الأخيرة" و"حظيرة لجواد واحد" و"جثّة صديقة"، أو أشياء أعمل عليها مثل "جارنا المرحوم الدكتور ماركس"، الذي توسّطت له بـ"منسف" عند وزير الداخلية في بلدي، ليحصل على رقم وطني، ما مكّنه من الترشّح لعضوية مجلس بلدي. في الواقع، لم يحالفه الحظ، ولكن يمكنه أن يفوز بعضوية مجلس النواب إن اشتريت له "كوتا" ما.
بالنسبة إلى عملي القادم، فهو منوط بـ"جارنا المرحوم الدكتور ماركس"، الذي أعكف على محاولة إقناعه بالاشتراك معي بكتابة مقال طويل "في مديح تاجر مخدرات"، نٌنصف فيه القائد الفذ بابلو أسكوبار، الذي أظنّه أكثر جدارة من دعاة عصرنا وقدّيسيه الذين لا يكفّون عن التشدّق بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة والسِلم والحقوق المدنية.
وربما أقنع "جارنا المرحوم الدكتور ماركس"، أيضاً، بإصدار طبعات مختصرة ومبسّطة من "رأس المال"؛ واحدة للأطفال، وأخرى للناشئة، وثالثة لربّات البيوت، ورابعة للمقبلات على الزواج تُسوَّق كهدية مجانية مع كتاب "لا تحزن"!
* هل أنت راض عن إنتاجك؟ ولماذا؟
- لا. ولكن هذا لا يزعجني. في الحقيقة، يمتعني ويريحني كثيراً سماع ملاحظة الكثيرين الذين يُبدون اعتداداً بما كتبوا. هؤلاء يجعلونني أشعر بالراحة والطمأنينة إلى أنني لم أرتكب الجريمة الأكثر فداحة في العالم.
* لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- نحن عملياً نضطّر للبدء من جديد دوماً. بل إننا نهدر باستمرار البدايات الجديدة من دون أن نصحح أو نعدل شيئاً مما نقول. إننا نتمنى لو تتاح لنا فرصة تعديله؛ لذا، أظنّني سأحبّ كثيراً أن أكون قائد فصيل الإعدام الذي يُطلق النار على ياسر قبيلات.. لم يزعجني ولم يؤذني أحد في حياتي قدر ما فعل. وبالمناسبة، ما كنت لأمنحه الفرصة لإبداء رغبته الأخيرة؛ إذ أن انساناً مثله أهدر كل هذا الحبر والورق من دون أن يتمكّن من قول ماذا يريد فعلاً، لا يُتوقّع منه أن ينجح بمعرفة ذلك في العشر ثوان الأخيرة من حياته. وفي الواقع، أظنّ أن أمنيتي الحقيقية، وهي للأسف مستحيلة، أن أقود انقلاباً عسكرياً في بلد وازن. انقلاباً "جدّياً" و"رصيناً" يملأ عيون محطّات التلفزة الكبرى في العالم، وليس انقلاباً "أي كلام" مثل ما شهدناه مؤخراً في المشهد العربي.
طبعاً سأُعدم، بيديّ، فور نجاح انقلابي، اثنين من أصدقائي، أولهما محمود منير. أمّا الثاني، الذي أقنعته سلام حمدان أن يستعيض عن الأصدقاء باقتناء كلب حقيقي لا أحبّ اسمه، فسأحتفظ بشخصيته طيّ الكتمان، لكي لا أفسد عنصر المفاجأة، فتضيع على "الجمهور" شحنة التشويق الضرورية. عموماً، كان هذا سيكون ممتعاً للغاية، لو أمكن أن يحدث.
وكنت أيضاً سأُقدّم لصديق ثالث شاهدة لقبره هدية في عيد ميلاده، وسأضع عليها له تاريخ وفاته الذي يناسبني؛ إذ من المؤكد إن مواعيدي وجدول أعمالي ستكون آنذاك، بوصفي قائداً لانقلاب "رصين"، أهمّ من أن يربكها صديق ما بموته المفاجئ، إضافة إلى أن ذلك لن يكون بادرة ودودة من طرفه، إن فعل.
* ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- أن يعود إلى رشده. يمكن للعالم أن يبقى ظالماً وبشعاً وجاهلاً وأرعنَ كما كان دائماً، لكني أتمنى أن يعود إلى رشده.
* شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- في الواقع، أتمنى لو عشت في زمن جمال عبد الناصر، لأحظى ولو بالقليل من القدرة على كراهيته، ومقاومة ما يثيره في وجداني من عواطف وإعجاب.
* صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- الكتب المفضلّة ليست قليلة. أمّا الأصدقاء فيتعذّر التفكير بالعودة إليهم طالما ليس بحوزتي بندقية مذخرة.
* ماذا تقرأ الآن؟
- أقرأ حالياً الشكلانيين الروس وعنهم. ومن الملفت أن هذه القراءة تنبّهني بشدّة إلى أن التفسير الديني، الذي هو دنيوي بحت في الحقيقة، هو آخر ما يُناسب النصوص المقدسة. نصوص الأديان المقدسة يجب أن تُقرأ وتُؤّوَل بأدوات النقد الأدبي.
* ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
يتردّد في أذني بإلحاح آخر الليل لحن مألوف، يجعلني أنشغل بمحاولة معرفة مصدره؛ فأطلّ من النوافذ، وأخرج من شقتي وأتفقّد طوابق البناية الخمسة، وأحياناً أتجوّل في شوارع الحي محاولاً تتبّع مصدر ذلك اللحن، ولكن من دون جدوى. وفي النهاية اقتنعت أنه مجرد لحن يتردّد في رأسي وحسب.
وسوى ذلك، فإنني أتمنى لو بوسعي أن أُعرِّض العالم، على نحو متواصل، ومستمرّ، إلى سماع صوت أبي الذي يشبه صوت المدافع العربية المعطوبة. كنت سأتسلّى كثيراً عندما سيضطّر العالم، حينها، إلى تكوين تحالف عسكري دولي لإسكات أبي، براً وبحراً وجوا.
بطاقة: روائي وقاص وسيناريست من مواليد قرية مليح الأردنية عام 1970، درس فنون السينما والتلفزيون في موسكو. صدر له: "أشجار شعثاء باسقة" (مجموعة قصصية)، و"رجل وامرأة ورجل" (مسرحية)، وثلاث روايات: "كتابك الذي بيميني"، و"حانة الحي القريبة"، و"خلاف عائلي"، ويصدر له قريباً كتاب بعنوان "جارنا المرحوم الدكتور ماركس". يعمل قبيلات بين الصحافة وكتابة السيناريو.