مونتيفيديو - إدواردو غاليانو

مونتيفيديو - إدواردو غاليانو
الرابط المختصر

شكّلت عاصمة الأراغواي مونتيفيدو نبعاً لكتابات ابنها إدواردو غاليانو، تحديداً الشعارات والعبارات المكتوبة على جدران ضواحيها الفقيرة من قبل النشطاء السياسيين وحتى العشاق، والتي دفعته أكثر من مرة لنقلها في أعماله وخاصة كتابه "المعانقات" تحت عنوان" الجدران تتحدث".

 

أمس الإثنين رحل ابن مونتيفيدو و صاحب كتاب المعاناقات عن 74 عاماً قضى جزءاً كبيراً منها منفياً عن مسقط رأسه لمواقفه المناهضة للديكتاتورية.

 

كلَّ يوم أسيرُ في المدينة التي تسيرُ فيَّ.

أسيرُ من خلالها وتسيرُ من خلالي.

عند حافة نهرٍ – بحر، نهر عريض كالبحر، يُنَظِّفُ الهواءُ النظيفُ ذهني وتذرعُ قدماي الأمكنةَ بِخُطىً واسعة، بينما تسيرُ القصصُ داخلي.

أكتبُ بينما أسير. وخلال التجوُّل، تبحثُ الكلمات عن بعضها بعضاً وتعثرُ على بعضها بعضاً وتنسجُ قصصاً أكتبها، في ما بعد، باليد على الورق. تلك الأوراق لن تكون هي الأوراق النهائية أـبداً. أحذفُ وأُجَعْلك، أُجَعْلكُ وأحذف بحثاً عن الكلمات التي تستحق أن توجَد: الكلمات الزائلة التي تتوق لأن تتغلّب على الصمت.

 

ولِدَت مونتيفيديو على طريق قذيفة مدفع، وجَرفَها نسيمٌ يُنَظِّف الهواء. قبل هذا، كان هناك كنيسة أو مستشفى، نقطة الصخر هذه، الأرض، والرمال، وكان ثمّة مقهى. كان المقهى يُدعى بولبيريا، أوّلُ بيتٍ ببابٍ خَشَبيّ يتوسطُ كوخٍ من طينٍ وقَشّ. باعوا كلَّ شيءٍ هناك، من الإبرة والمقلاة إلى صُرَّة التبغ، بينما الرجال يقتعدون الأرضَ، يحتسون النبيذ، ويسردون الأكاذيب.

 

عملياً؛ ظلَّت مونتيفيديو بعد ثلاثة قرون مدينة المقاهي.

نحن لا نسأل بعضنا: أين تسكن؟ نحن نسأل: أيّ مقهى ترتاد؟

 

غير أنَّ في عالم زماننا الحالي بالكاد يوجَد وقت لإضاعة الوقت، والمقاهي الأقدم، المقاهي المحَبَّبة أكثر، لا تستحق أن توجَد لأنها لا تَدِّرُ ربحاً.

أنا أرتادُ مقهى براسيليرو، حيث تعيش فيه المعجزات والعجائب.

هذا هو آخر أمكنة اللقاءات القديمة حيث تعلّمتُ فيه فنَّ حكي القصص بالإنصات للكذّابين الذين، بكذبهم، إنما يقولون الحقيقة.

كان المقهى جامعتي.

 

لم أعرف أبداً أسماء هؤلاء السَحَرَة الذين بمقدورهم جعل ما لم يحدث يحدث عندما يحكون عنه. من هؤلاء الأساتذة، من عَرْضهم الكلاميّ المتأني، من خطاهم الواسعة السهلة تعلّمتُ بينما تظاهرتُ بأني لا أفعل هذا، ناظراً خارج النافذة لأرى "الفورد بشاربيّ القِّط"، كما اعتدنا تسمية ذاك الطراز من السيارات التي جابت شوارع مونتيفيديو بتمهّل السلاحف. ما زالوا يفعلون هذا حتّى اليوم، لقد نَجَت تلك السيارات بما لا يمكن تفسيره، حيث يمكن رؤيتها في مدينتنا وليس في أيّ مكان آخر: سيارات جامدة، متغطرسة كقطعة في متحف، مختلفة عن سيارات اليوم التي تفترس بسرعة مُدّوِّخَة الساعات والهواء.

 

هنالك مَن يقول أنَّ مونتيفيديو مدينة مملَّة.

ربما هم على حق.

لا شيء يحدث هنا.

يفوزُ الحنينُ على الأمل.

ففي حفرةٍ ما بإمكانكَ أن تفقدَ عَمَتين.

 

لكنها أيضاً عاصمةُ بَلَدٍ حُكِمَ بمقاتلي حرب عصابات أُفرج عنهم وخرجوا من السجون وتم انتخابهم بديموقراطية، وهي المدينة التي تنتجُ أكثر الخبراء الذين يتفلسفون على كلّ شيء وعلى لا شيء، المدينة المتضمنة أكثر المسارح استقلالية وحرية وأكثر صالات السينما عدم الاتسام بالبُعد التجاري، بما تتضمن أنها الأولى التي تعرض أفلام بيرجمان (1) وبولانسكي (2)، المدينة التي تحتفل بأطول كرنفال في العالم، وأنها المدينة التي تنتج أكثر لاعبي كرة القدم، لأنَّ كلّ طفلٍ يولَد فيها يصرخ "غوووول."

مونتيفيديو، المدينة التي ولدتُ فيها.

المدينة التي سأولَدُ فيها من جديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Ernest Bergman (1918-2007): مخرج سينمائي سويدي، وكاتب ومنتج، عمل أيضاً في المسرح والتلفزيون. من أفلامه: فاني وألكسندر، صرخات وهمسات، من خلال زجاج معتم، فراولة بريّة.

Roman Polanski مخرج ومنتج بولندي. نال الجنسية الفرنسية عام 1976. من أفلامه: عازف البيانو، شايناتاون، الكاتب الشبح، طفل روز ماري.

المصدر:

http://johnbakersblog.co.uk/montvideo-a-poem-by-eduardo-galeano/

أضف تعليقك