تأتي أهمّيّة كتاب "ملخّصات أمّهات التراث في علوم الطبيعة والطب والصيدلة"، للمهندس الدكتور أيوب عيسى أبودية ومراجعة وتحرير الأستاذ الدكتور همام غصيب، ومن منشورات وزارة الثقافة الأردنية 2024، من حيث أنه يضم ملخصات لسير أعلام وبعض كتبهم التي تعد من أمهات كتب التراث. وتتضمّن موضوعاتعا العلوم الطبيعيّة والتطبيقيّة والطبّيّة والصيدلانية وغيرها.
واهتمامي بالموسوعة يأتي من باب إعجابي بمستوى التلخيص الفريد من نوعه في المكتبة العربية، على غرار موسوعة ملخصات أمهات التراث في الانسانيات في مئة كتاب وكتاب للمؤلف نفسه، والذي يضيء أعمالا مهمة من الانتاج الطبي في الحضارة العربية الاسلامية التي قامت عليه العلوم الطبية في الغرب. وفي هذه المقالة سوف نستعرض كتابين طبيين، هما للزهراوي وابن قف الكركي.
الزهراوي (324-404هجرية/936-1013م):هو أبو القاسم، خلف بن عباس الزهراوي الأنصاري الأندلسي. ولد في مدينة الزهراء بالأندلس من أصول تعود إلى المدينة المنوّرة، ولذلك لُقّب بالأنصاري. أصبح طبيباً لبلاط الخليفة. تنسب إليه ابتكارات وإبداعات كثيرة يصعب حصرها. هذا وقد اعتبره ابن حزم من ضمن أعظم أطباء الأندلس، وقال عنه ابن أبي أصيبعة إنّه كان طبيباً فاضلاً، وخبيراً بالأدوية المفردة والمركّبة، جيّد المعالجة. ومن الجدير بالذكر انه كان متقشّفاً في حياته، وذهب الكثير من أعماله اليوميّة بدون أجر.
ولا بد من الإشارة هنا أنّ الوثائق والمشاهدات والتجارب الشخصيّة التي تأسّست عنده عبر خبرة طويلة وفق عمل منهجي صارم، تعدّ مدرسة في التشريح وتشخيص الأمراض وعلاجها، كما أنّها تعكس نقلة نوعيّة في ممارسة الطب بعيداً عن الاستنتاجات النظريّة والروحانيّة التي كانت سائدة. ويضيف الطبيب الجراح فادي شعبان الذي راجع هذه المقالة أن الزهراوي يعد أيضا أول من عمل عملية استئصال للغدة الدرقية.
ومن أشهر مؤلفاته، كتابه «التصريف لمن عجز عن التأليف» وقد جاء في ثلاثين مقالة في علوم الطب والصيدلة والتشريح وصناعة الدواء ويُعدّ هذا الكتاب موسوعة طبّيّة ضخمة تضاهي «القانون» لابن سينا، و«الحاوي» للرازي. وأفرد الزهراوي المقالة الثلاثين من هذا الكتاب للجراحة وهي تُعدّ ثورة طبّيّة في عصره. وبات يُعدّ مؤسّس علم الجراحة على الإطلاق.
تُرجم كتابه هذا إلى لغات كثيرة، منها: اللاتينيّة، والعبريّة، والكاتالونيّة، والفرنسيّة، والفارسيّة، والتركيّة. وتبدأ الموسوعة الطبّيّة في مقالاتها بتقسيم الأمراض، وشرح علامتها، ومعالجتها، ووصف الأدوية المفردة والمركّبة بأنواعها، كالمعاجين والأكحال، والبخور، والسعوط، وأدوية الفم والأسنان، والسعال، والقرحة، وأنواع الأطعمة للمرضى، والتعرّف إلى قوى الأدوية، وخواص الأدوية، والعقاقير، والأكيال، والأوزان، وغيرها.
كما يوثّق الزهراوي في كتابه حالات كشف سريري لمرضى قام بعض الأطبّاء بأخطاء في معالجتهم، عن غير دراية في علم التشريح، فمثلاً يذكر منها: رؤية طبيب جاهل يشق ورم خنزيري في عنق امرأة، فقطع بعض شريانات العنق، فنزفت حتى ماتت. وفي مثال آخر يُخرج الطبيب حصى كبيرة من رجل مسن، فمات. كما شرح هذه الحالات، وشخّصها، وأوضح الأخطاء التي ارتكبت في العلاج.
تكاد إبداعات الزهراوي التي جاءت في مصنّفه الموسوعي لا تعد ولا تحصى، فنذكر منها على سبيل المثال:
ففي المجال الجراحي، اشتهر الزهراوي بمعالجة الأمراض عن طريق الكي باستعمال أدوات الكي. واعتبر أنّه لا يمكن اللجوء إلى الكي إلّا إذا فشل الطبيب في مختلف ضروب المعالجة. كما وصف أنواع الحقن المختلفة، ومناشير العظام، والمشارط، وغيرها.
كذلك صنع خيوطا من أمعاء الحيوانات بعد تجفيفها ومعالجتها لاستعمالها في خياطة الجروح، وابتكر فن الخياطة الراجعة، والخياطة المثمّنة، والخياطة التجميليّة، واستعملها في جراحة الأمعاء على وجه التحديد. كما مارس التخييط الداخلي بإبرتين وخيط واحد مُثبَّت فيهما. كما شخّص سبب عدم التئآم الجروح ورَدّها إلى قلّة الدم (فقر الدم)، أو رداءته (داء السكري)، وإلى الكثير غيرها من الأمراض. والجدير بالذكر انه لجأ أيضاً إلى المعالجة النفسيّة قبل الجراحة، خاصّة عند اجراء عملية الختان عند الصبيان.
وفي مجال التعقيم، استخدم الزهراوي أساليب متطوّرة لتعقيم الجروح بالشراب والزيت، أو بالخل والزيت، أو بالكبريت. وكان أوّل من استخدم في الجراحة خطّافات مزدوجة، وصاحب فكرة تصريف السوائل التي تجتمع في مكان العمل الجراحي (مثل الخُرَاج).
وبرع الزهراوي في التوليد والجراحة النسائيّة؛ ووصف طرق تدبير الولادات العسيرة، وكيفيّة إخراج المشيمة الملتصقة، والحمل خارج الرحم، وطرق معالجة الإجهاض. وهو أوّل من استعمل آلات خاصّة لتوسيع عنق الرحم، وابتكر آلة خاصّة لاستخراج الجنين الميت. وكذلك وصف استخراج حصاة المثانة بالشق والتفتيت عبر ممر المهبل عند النساء. كما أوصى بالاستعانة بالنساء في التمريض.
وفي مجال أمراض الجهاز البولي، اختراع الزهراوي أدوات جراحيّة لفحص الإحليل الداخلي، ووصف عمليّة القسطرة وأدواتها ومعالجة انسداد فتحة البول الخارجيّة عند حديثي الولادة، وآلة لتيسير مرور البول، كذلك ابتكر فكرة تفتيت الحصى.
وفي مجال جراحة الصدر، أجرى عمليّات شق القصبة الهوائيّة، ونجح في تنظيف تجويف الصدر من الدم المتراكم، وفي تجفيف الدم من الجروح الغائرة، وذلك باستعمال القطن لأوّل مرّة بهدف إيقاف النزيف.
وتحدّث أيضاً عن فحص الأذن وعن استئصال اللوزتين بشكل دقيق ومفصّل، مستخدماً الأدوات المناسبة كمقصلة اللوزة. كما ابتكر طريقة نشر سليلات الأنف باستخدام آلة شبيهة بالتنظير المعاصر، واستخدم أنابيب الرصاص، وريش الإوز، وذلك في دك الأنف بعد العمليات الجراحيّة. وبرع في وسائل قطع النزف، فنجح في وقف النزيف بربط الشرايين الكبيرة بابتكارات مميّزة. ووصف استئصال أورام الأنف.
وفي مجال الامراض المعدية، وصف الكثير من الأمراض، مثل «علّة البقر»، و«النافر»، وغيرهما. وكذلك وصف معالجة الثآليل، ووصف التهاب المفاصل. وفي الباب الثاني من المقالة الثلاثين خصّص فصلاً كاملاً لجراحة الفم والأسنان والفكَّيْنِ، مدعّمة برسومات للأدوات الجراحيّة التي ابتكرها. ووصف كل أداة منها، والمواد المعدنيّة المصنوعة منها. وكتب عن تشريح الأسنان، وأساليب فتح الفم الآلي رغم إرادة المريض، ووصف «الناسور الفكي الفمي»، وأمراض الفم والأسنان، وأعراضهما، ومعالجتهما، وأدوية الفم، والمواد التي تبيّض الأسنان، وتنظّفها، وتُذهب أوجاعها. وكذلك وصف أدوات خاصّة لفحص الفم، وكلاليب خلع الأسنان.
كذلك وصف اورام اللثّة ووصف طريقة تشريح الزائد اللحمية في اللثّة، وجراحة الضفدع تحت اللسان، وتشوّهات الفم وسقفه، وقلع الأسنان بلطف، وطرق استخراج جذور الأضراس، وأسباب كسور الفك أثناء القلع، ومعالجة كسور الفكّين، وزراعة الأسنان وتقويمها، وردّ الضرس إلى موضعه بعد سقوطه، ونحت أسنان جديدة من عظام البقر، وجبر الفك السفلي، وقطع الدم النازف عند قطع الشريان باستخدام الكي.
لذلك، يمكننا القول إنّ الزهراوي شكّل ظاهرة جديدة في تاريخ الطب وصناعته على وجه العموم، خاصّة في فن الجراحة وتطوير أدواتها، وفي عصر كان عمل الطبيب الجرّاح بيديه يُعد مهانة ومذلّة وصنعة دونيّة، حيث بات يُعدّ من أهم المرجعيّات الطبّيّة في أوروبا القرون الوسطى.
أما ابن القف الكركي (630-685هجرية / 1232-1286م): وهو أبو الفرج، أمين الدولة بن يعقوب بن إسحاق بن القف، ولد في مدينة الكرك بالأردن، ودرس الطب في صرخند بحوران في سوريا. انتقل إلى دمشق حيث أكمل دراسته الطبّيّة، واكتسب خبرات في ممارسة الطب في مشافي دمشق. عُيّن رسميّاً في قلعة عجلون بالأردن لخدمة الجنود، وعمل طبيباً جرّاحاً فيها لمدّة عقد من الزمن بعد تحريرها، نحو عام 1262 للميلاد، ثم عاد إلى دمشق ليتسلّم رئاسة مشفاها في قلعة دمشق. ويعتبر ابن القف من أعظم جراحي العرب، بعد أبو القاسم خلف بن عبّاس الزهراوي. . ومن مؤلفاته كتاب العُمْدة في صناعة الجراحة. وقد قسّم كتابه هذا الى عشرين مقالة أذكر بعضها:
المقالة الأولى في حد الجراحة وذكر الأخلاط (السوائل المسيطرة على بدن الإنسان، من دم وبلغم وسوداء وصفراء). أمّا المقالة الثانية ففي أمزجة الأعضاء، وفي تشريح الأعضاء البسيطة، تليها المقالة الثالثة في تشريح الأعضاء المركّبة، والمقالة الرابعة التي تذكر ما ينبغي على الجرّاح أنْ يعرفه من أنواع المرض، وفي تعريف الورم، وكيفيّة حدوثه.
وفي الفصل السابع من المقالة الرابعة بعنوان: «في كيفيّة فساد العضو وعلامة فساده»، يعرّفنا بمراجعه العلميّة، كما هي الحال عند حديثه عن «غانغرينا»، وهي ترمز إلى ابتداء الفساد في عضو من أعضاء الجسم. فإذا مات العضو سمّي «سقاقلوس» يجدر التنويه ان الغرغرينة تعني موت العضو في المفهوم الحديث للمصطلح. ويقول ابن القف: أمّا الأقدمون (الإغريق)، فإنّهم يسمّون الغرغرينا «سقاقلوس»، أي انسداد في وعاء دموي، والتي قد تؤدي إلى «غانغرينا»، ؛ فعندما تتوقّف تغذية الأوعية الدمويّة للعضو، فإنّه يفسد. ويستطرد ابن القف في شرحه للفصل ذاته: «وقال غالينوس إنّ اليونان كانوا يسمون هذه العلّة، التي يسميها الأطبّاء غانغرينا، سقاقلوس، وهو قول حق".
ويتّضح من هذا أنّ ابن القف كان يُحكّم رأيه فيما كان يقوله الإغريق من قبله، فيقبل هذا أو يرفض ذاك. وهذا ما جعل من العلوم الطبية العربية تطويرا على العلم الاغريقي وامتدادا للمعرفة البشرية التي صنعت العلم المعاصر، كما شاهدنا في الكتابين الأخيرين لابن القف والزهراوي.