موجز تاريخ عصا السنوار

الرابط المختصر

عزيزي.. أرجو أن تصلك رسالتي هذه وأنت في خير وعافية ممسكًا بقلمك. كم أحب قراءة الرسائل، وأكره كتابتها. ولكن الخطب جليل، والمصاب عظيم، والانصراف عن الكتابة اليوم لون من التولّي المذموم، فالكلمات التي لا تصطفّ اليوم لتشكل محكيّة تساند المقاومة هي كلمات زور.

ها قد رحل السنوار، عنيدًا عاش، ومستفرغًا لوسعه في الغاية التي أوقف حياته عليها. انطفأ نجم في سماء فلسطين، بل في سماء الوطن العربي. لقد صدّعت رؤوسنا العواصم العربية بانتظار صلاح الدين، فلما ظهر رجل لا يقلّ عنه حزمًا وعزمًا انصرفت عنه، ولم تتبعه سوى آلاف الأصابع على مواقع التواصل الاجتماعي، ونصرته بجيوش من التغريدات. أما هو فقد قاتل "ولم يضرّه من خذله" حتى إذا لم يبقَ في يده سوى عصاه، وقد أثبتته الجراح، ألقى العصا، مقاومةً وبلوغا للغاية، والعرب تقول فلانٌ ألقى العصا "تعني أنه وصل إلى غايته ومراده"، هكذا قال أسامة بن المنقذ، الفارس الأمير (ت 584هـ/1188م).

لتلك العصا يا صديقي نسبٌ عريق في عصيّ الصالحين. سأحكي لك قصتها متتبّعًا النسب المعنوي، لا سلالات الأخشاب. لقد كانت جدتها الأولى عصا التذكار التي نزلت مع آدم من الجنة فيما يرويه ابن عباس (ت67هـ). فقد اتخذ آدم عليه السلام عصا من أشجار الجنة حين أنزل إلى الأرض تذكّره بمنزله الأول، ومعاده الأخير، وحمل السنوار عصا من أشجار الأرض المباركة حين حانت ساعة ارتقائه إلى السماء وتوديع عالم الطين. أتراه كان يستعدّ للجنة، حيث تشبّع أبو إبراهيم بوصية إبراهيم عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إذ قال له "يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قِيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، فوجدنا في جعبته شيئا من تلك البذور التي تحملها أوراده ومطويات أذكاره؟ هل بلغ به حب فلسطين أن يفكر في زرع شجرة زيتون في الجنة، فحمل معه عصا من أشجارها؟ لستُ أدري.

ولم تزل أمهات تلك العصا يا صديقي في صحبة الصالحين والأنبياء، عونًا لهم. ومنهن عصا يعقوب وهي عصا الزيادة، وفيها معنى الوحدة التي تلد الكثرة. تحتفظ لنا التوراة بقصتها، إذ يقف يعقوب مناجيًا ربه شاكرًا لإنعامه معترفًا بتكريمه، فيقول "صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك. فإني بعصاي عبرت هذا الأردن، والآن قد صرت جيشين" (سفر التكوين 32: 10). لقد عبر يعقوب عليه السلام بعصا وعاد بجيشين، وفي عصا السنوار معنى الوحدة التي تلد الكثرة. فقد كان مشهد وداعه إيذانًا بنهاية الفرد، وميلاد معنى الجماعة، إذ قُتلَ وحيدًا منفردًا، لكنه ما إن ألقى العصا حتى تحوّل إلى أيقونة ملهمة من النضال والفداء ستلهم العديد بسلوك طريقه. لقد ألقى السنوار عصاه فالتقطتها آلاف الأيدي فكرة لوقف الحياة على مشروع التحرير. لا شيء أكثر إقناعًا للناس من أفكار يثبتها صاحبها بدمائه وفي آخر لحظات حياته.

ومن أمهاتها عصا موسى التي تعرف بعصا الآيات، "وتأخذ في يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات" هكذا خاطب الله موسى عليه السلام في سفر الخروج، وفي عصا السنوار تجلّت لنا بعض الآيات.

 

لقد كَبسَلَتْ العصا قصة السنوار، كما كَبْسَلت عصا موسى قصته مع العناية الإلهية. لم تتحول عصا موسى إلى حيّة حتى تلطّف الله به في مولده وإرجاعه إلى أمه، وإنقاذه من قصر فرعون ومن جنوده حين قتل المصري، ووصوله إلى مدين وزواجه وعودته إلى أهله وتجلّي الله له. كل هذا سبق تحويل عصاه إلى آية، كان هذا حين استفرغ موسى جهده في كل ما أقبل عليه. هل تعرف ماذا يعني أن ينفق المرء عشر سنوات ليسدد مهرَ زوجته؟

لقد كان موسى مقبلًا على شؤونه بكليّته. حين استنقذه الإسرائيلي على المصري لم يكتفِ بأن يحجز بينهما، وإنما ذهب إلى منتهى النصرة إذ قضى على خصمهما، وحين رأى المرأتين تذودان لم يكتف بنصح الرعيان بأن يقدموهما، بل أورد القطيع بنفسه وسقى لهما، وحين أرسل لم ينشغل بالدعوة الجماهيرية بل ذهب للصدام مع رأس النظام. بعد هذا كله صارت عصاه المحاطة بالعناية الإلهية قادرة على شقّ البحر. استفراغ الجهد هو المعنى الذي تدور عليه حياة السنوار، التقط أحمد ياسين هذه السمة في تلميذه فوكله بحسم ملف العملاء. وحين سُجن وضاقت عليه مساحة العمل استفرغ جهده لتدوين قصة المقاومين، وحين خرج لم يصرف جهده إلا في الفكرة الكبرى وهي التحرير! بعد هذا كله صارت عصاه قادرة على تسخير عدوه له في توثيق لقطته الأخيرة لينقل إلى العالم مشهد خروجه المسرحي.

لقد أكلت عصا موسى سحر فرعون، وأكلت عصا السنوار سحر إسرائيل والمحكيّة الصهيونية، وعمل الهاسباراة، ودعاية الإعلام الغربي، لم يكن السنوار تحت الأرض بطوابق يحتمي بالنساء والأسرى، بل كان يقاتلهم فوق الأرض على ارتفاع طابق. "فأُلقي السحرة ساجدين".

لم يفهم بنو إسرائيل أن عصا موسى ابنة القدرة والتأييد، وليست قبلة في ذاتها، لكنهم صيّروها وثنًا وحولوها إلى طقس. ولم يفهم العرب عصا السنوار، فتركوا معناها واعتنقوا الصورة. حين ذهب موسى مع عصاه إلى لقاء ربه خلفه قومه بعبادة العجل، وحين ارتقى يحيى إلى ربه خلفه بعضنا بعبادة إسرائيل، وأخذوا يطرحون خيارات الاستسلام.

ومن أمهات عصا السنوار يا صديقي عصا سليمان، وهي عصا الكشف. وهي العصا التي كشفت ادعاء الجن لقدرات خارقة وإحاطتهم بعالم الغيب، فبقوا في العذاب والسخرة إلى أن أكلتها الأرضة. وكان في عصا السنوار كشف لقدرات المخابرات الإسرائيلية التي صار كثير من أصحابنا يظنون أنها قد اطلعت على الغيب وأحاطت به علما، لا سيما بعد ما فعلته في لبنان. لم تصل المخابرات إليه ولا قاربته، بل لم تفهم أن الرجل الذي كانت تبحث عنه يقف أمامها في الميدان. بقيت الجن عامًا كاملًا في السخرة حتى أنقذتهم دابة الأرض، وظل الصهاينة عاما في التيه حتى أنقذتهم المصادفة.

 

ومن أمهاتها من عصيّ العرب عصا قس بن ساعدة الإيادي (ت نحو 600م/23 ق.هـ) التي اتخذها لخطبته، وكان أول من اتخذ عصا للخطابة كما يخبرنا أبو عثمان الجاحظ (ت255هـ/868م)، وفيها -أعني عصيّ العرب- معنى زائد، ففيها روح لا نعرف ماهيتها. تسخر مني؟ وتقول جُنّ صاحبي؟ فما هي الروح التي تكون في عصا جامدة؟ فأقول لك: هل تراها مصادفة أن يكون قس بن ساعدة الذي اتخذ عصا لخطبه من أوائل الموحدين في فترة بين النبوات؟ ألم يظهر جذع خشبيّ في المدينة مشاعر المحبة والشوق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وخبره ثابت عندك في صحيح البخاري (ت256هـ/869م)، بل هل تراها مصادفة أن تثأر العصا التي كان يخطب بها عثمان رضي الله عنه من أحد الثوّار عليه. فقد حكى الطبري أن عثمان كان يتخصّر بعصا في خطبته، فقام إليه الجهجاه الغفاري وهو يخطب فكسرها على ركبته، فدخلت شظية منها في ركبته فأصابته الأكلة، فلم يعش بعدها عامًا! أليس غريبا هذا التشابه بين العربي وعصاه؟

ذكرتَ لي مرة عصا عبد الله بن أنيس الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن سفيان الهذلي الذي كان يجمع القبائل لغزو المدينة، فقتله وعاد مستبشرًا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح الوجه، وأعطاه عصا ليتخصّر بها (يتكئ عليها) وقال له "آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ يوم القيامة"، فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمّت معه في كفنه ثم دفنا جميعا. ونحن نرجو أن يدخل أبو إبراهيم الجنة غدًا متخصرًا بعصاه.

وفي عصا السنوار معنى من معاني جدتها؛ عصا عكاشة بن حصن التي أعطاه إياها النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين كسر سيفه، فعادت في يده سيفًا صلتًا فما زال يشهد به المشاهد بعدها. وإني أقول لك: ما لم تستحل عصا السنوار سيوفًا في أيدي العرب والمسلمين فلن تقف إسرائيل بعده عند حد، إن هذا العدو لا يردعه الحِلمُ وإنما الخوف. كان عكاشة قد سمى عصاه "عونًا"، فماذا نسمي عصا السنوار؟

في عصا السنوار قوة نور ساطع يا صديقي ينبغي أن يستضيء به الجيل كما سطع النور في بعض أمهاتها، وهي عصا أسيد بن الحضير وعباد بن بشر عندما خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، في آخر الليل، فكانت تضيء لهما الطريق فلما افترقا أضاءت عصا الآخر. وفي عصا السنوار نور معنوي؛ لقد أثبت لنا أن العدو قابل للكسر، وتمكن هزيمته، فضلًا عن الصمود أمامه. لقد صمد الغزيون عامًا كاملًا أمامه، فماذا تراه يكون لو دُخل عليه من أقطارها، من الأردن ولبنان ومصر وسوريا؟ لقد أضاءت عصا السنوار الطريق، لكن من يا تُرى سيستضيء بها، ويسير معها أجيلنا هذا، أم جيل قادم؟

كم تشبه عصا السنوار جدّتها عصا/درة عمر التي شهدت توطيد الحكم الإسلامي، والقضاء على إمبراطوريتين، وكانت ملخصة لعدله وحزمه وشدة بأسه. وشهدت عصا السنوار بذرة مشروع للمقاومة والتحرر، فقد أغمض السنوار عينيه وقد انكمش بسبب فتكته الكبرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول انتشار المستوطنين في الشمال والجنوب الفلسطيني.

ولعصا يحيى السنوار يا سيدي أخت غير شقيقة، حملها سميُّه يحيى الصرصري الحنبلي (ت650هـ/1252) في مقاومته للمغول حين غزوا بغداد. يحكي لنا ابن رجب الحنبلي (ت795هـ/1393م) مشهده الأخير التي غابت عنه كاميرا المسيّرات فيقول "ولما دخل هولاكو وجنده الكفار إلى بغداد كان الشيخ يحمى بها، فلما دخلوا عليه قاتلهم. ويقال إنه قتل منهم بعكازه (عصاه)، ثم قتلوه شهيدا".

بعد افتراقنا بالأمس، لاح في ذهني خاطر غريب، أشاركك إياه؛ أترى تكون عصا السنوار طليعة الشجر إلينا، في الإعداد لمعركتنا الكبرى، ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الشجر (إلا الغرقد) سيتحالف غدًا معنا في قتال عدونا من اليهود؟ لا تعجب، ففي العصا قوة توحيد وإيمان، ألم يثبت عندنا أن الأشجار تسبّح، وأن شجرة أجابت النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت برسالته، كما في الحديث في صحيح ابن حبّان (ت356هـ/965م) ولو رأيت "الغرقد" حليفهم من الأشجار لرأيت شجرة بلا جذع، وإنما كومة من الأغصان الشوكيّة، فلا يمكن أن تنتج العصيّ! أليس هذا غريبًا؟