من أوبنهايمر إلى غزة: تغييب الضحايا وتكريس القتلة

الرابط المختصر

لم يحقق فيلم المخرج البريطاني كريستوفر نولان «أوبنهايمر» نجاحاً مقارنةً بأفلامهِ السابقة، فيلمهُ الجديد هو فيلمُ سيرةٍ ذاتيةٍ لأسوأ ما عرفتهُ البشرية من أسلحة «القنبلة الذرية» وصانعها.

لا يطرح نولان في فيلمه مبرراً واضحاً لدوافع العالم جوليوس روبرت أوبنهايمر لصناعته القنبلة الذرية، سوى شخصيته المضطربة، ورغبته في القضاء على النازية ولم يكلف نفسه عناء طرح السؤال الأخلاقي أساساً عما فعلته هذه القنبلة بالأبرياء، إلا أن ما نستطيع قراءته من فيلمه، وبشكل عام أن تلك الحقبة المنصرمة من التاريخ، التي خلفت أكثر من 70 مليون قتيل، كان من الطبيعي أن يصل العنف فيها عبر أحد مساراته، إلى ما وصل إليه أوبنهايمر من خلال مشروع مانهاتن، في الولايات المتحدة الأمريكية. اليوم وبعد مرور أكثر من سبعين عاماً على إلقاء القنبلة الذرية، لسنا ببعيدين عن ذلك المشهد العدمي العنيف، ولا أكثر إنسانية أو تحضراً على ما يبدو، في الشهر الأول للعدوان الإسرائيلي على غزة فقط ألقت قوات الدفاع الإسرائيلية ثمانية عشر ألف طن من المتفجرات، أي ما يعادل قنبلة ونصف القنبلة الذرية من التي رميت على هيروشيما، حسب وكالة الأناضول للأنباء.

في إحدى مقابلاته التلفزيونية وخلال الحديث عن عمله يقول العالم أوبنهايمر «لقد علمنا أن العالم لن يعود كما كان عليه سابقاً، البعض كان يضحك، وآخرون كان يبكون، والأغلبية كانت صامتة». وفي معرض حديثه يقتبس نصاً من كتاب الديانة الهندوسية البهاغافاد غيتا عن الإله فيشنو مشبها نفسه به قائلاً: «الآن لقد أضحيت الموت بنفسه، مدمر جميع العوالم». يستغرب الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك خلال تعليقه على فيلم «أوبنهايمر» في أحد لقاءاته كيف لمخرج وصانع أفلام، مشيراً إلى نولان «أن يطرح شخصية كانت مولعة بكتاب البهاغافاد غيتا الذي كان من أكثر الكتب إلهاماً للضابط النازي هاينريش هيملر المعروف بمهندس الهولوكوست» طارحاً في حديثه إشارات استفهامٍ عديدة تجاه الفيلم، وأهمها غياب سردية الضحايا.

غياب الرواية الأخرى للضحايا اليابانيين عن فيلم «أوبنهايمر» وعدم الإشارة لهم في سياق الفيلم فاجأ بعض النقاد، وكأنما المؤسسات الإعلامية والسينمائية الغربية عودتنا على توزيع مثل وقيم العدالة في إنتاجاتها بشكل يومي! ليحجم بعضهم عن متابعة الفيلم ووصفه آخرون بالفيلم العنصري والمتحيز، كما امتنعت بعض الدول عن عرضه وعلى رأسها اليابان، إلا أن الرد غير الرسمي الذي تم نشره بخصوص هذه المسألة هو أن «فيلم أوبنهايمر فيلم سيرة ذاتية» أي ليس للضحايا مكان فيه.

يرى البعض أن غياب وجهة نظر الضحايا ليست بالمسألة المعقدة ويمكننا أن نشير إليها بمصطلح «الانتقائية المبطنة» ونستطيع أن نرى مثالاً أكثر وضوحاً وفداحةً عنها في تغطية العدوان الإسرائيلي على غزة عبر قناة الـ CNN، فهذه المؤسسة الإعلامية الكبيرة التي تدعي الموضوعية والحياد المزعوم ترى في قصة «جروٍ ضائع لعائلة إسرائيلية» أكثر أهمية من الحديث عن مئات وآلاف الضحايا الفلسطينيين الذين قضوا بالقصف الإسرائيلي الانتقامي الوحشي. يشير بعض النقاد إلى أن المسألة الأخلاقية اليوم في مأزق حقيقي، فغيابها عن الطروحات الغربية المهيمنة على العالم في المشهد السينمائي خاصة، والثقافي عامة والحقول الأخرى، ستؤدي بنا الى عالم أكثر وحشية مما نحن عليه اليوم.

يبدأ المخرج كريستوفر نولان فيلمه بالجملة المقتبسة من الميثولوجيا اليونانية «سرق بروميثيوس النار من الآلهة ووهبها الى البشر، وجراء هذا تم تقييده بالصخرة وتعذيبه إلى الأبد» مسقطاً على هذه الجملة حكاية العالم أوبنهايمر بعد صناعته السلاح الأعنف والأكثر دموية في التاريخ، كما أن لهذه الجملة إشارة ضمنية إلى أصل العنف الدائر بين البشر منذ بداية التاريخ، حسب بعض الأدباء والمختصين، إلا أن الباحث الفلسطيني وائل حلاق ينطلق لتفسير هذا العنف الدموي من زاوية تاريخية مختلفة تماماً وأكثر واقعية قائلاً «إن هذا العنف يعود في جذوره إلى اللحظة التي اكتشف فيها القراصنة الأوروبيون البارود الصيني وحولوه إلى مدافع حربية في سفنهم، وسيطروا على البحار واليابسة عبر النهب والقتل والإرهاب، وتحولت هذه السيطرة إلى أشكال أكثر تنظيماً في ما بعد» مشيراً إلى بداية عصر الاستعمار الأوروبي الذي احتل واستعمر ونهب شعوب العالم وثرواته، واستعبد الملايين منهم وغير سيرورة التاريخ الطبيعية.

هذا النظام العالمي الذي رسمت معالمه في القرن الأخير عبر جانب واحد من العالم، وأخذت صراعاته منحى وحشيا غير مسبوق في التاريخ، وما زالت تحكمه ذهنية استعمارية برداء حداثي، بحاجة إلى التفكيك وإعادة التوازن إليه، ليس عبر النخب السياسية والاقتصادية الحالية فهؤلاء فشلوا وتآمروا على الشعوب.

ولعل الحديث عن الدموية النازية والأوروبية والامريكية في تلك الحقبة قد يفسح لنا مجالا صغيراً لتوضيح وتصحيح بعض المغالطات التاريخية التي لم يوضحها كريستفور نولان في معرض فيلمه، فالقنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة بشكل وحشي وبمساعدة أوبنهايمر شخصياً عبر انتقائه الأهداف المدنية الأكثر اكتظاظاً، أتت أساساً بعد استسلام النازية بأربع شهور والتي أنهتها القوات السوفييتية وليست الأمريكية فعلياً، وهذا يضعنا أمام حقيقة بشعة وهي أن القنابل التي تم إلقاؤها على مدينتي هيروشيما وناغازاغي عام 1945 كانت بمعزل عن سياقات الحرب، وبعد انتهائها تقريباً، أي أن قرار إلقائها كان واعياً تماماً وكان انتقاماً عنيفاً دموياً من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر عام 1941.

ولكي نستطيع تفكيك مشهد العنف الغربي هذا سواء الأوروبي – الأمريكي السابق أو الإسرائيلي – الأمريكي الحالي يمكن للمفكر الفرنسي روجيه غارودي أن يضيف لنا تحليلاً آخر حيث يقول في كتابه «الأصوليات المعاصرة» (إن الحضارة الغربية اللاواعية هي من أخطر الأصوليات في التاريخ، فإن هيمنة الغرب منذ 5 قرون تكللت بإدارة مدمرة للكرة الأرضية». هذه الأصولية الغربية التي لا تتسق مع معاييرها الحداثية، التي تتشدق بها ليل نهار كالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وغيرها، تعود دائماً إلى منطلقها الأساسي القائم على المصلحة أولاً، فتجدها تحارب وتصرف المليارات من الدولارات من أجل حقوق الشعب الأوكراني في الحياة والحرية والديمقراطية، وعلى الطرف الآخر ترفع الفيتو في وجه قرار أممي لتضمن استمرار القصف الإسرائيلي وقتل الشعب الفلسطيني بحجة دفاع دولة الاحتلال عن نفسها، ولنفهم هذه الازدواجية في المعايير علينا إعادتها إلى مربعها الأول (البراغماتية) في ورقة بحثية منشورة في جامعة أكسفورد بعنوان البراغماتية الأمريكية في السياسة الخارجية يقول الباحثان: «إن السياسة الأمريكية متأثرة ببراغماتية المجتمع الأمريكي القائمة على النفعية والمصالح، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية دأبت على اتباع البراغماتية في سياستها الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية» أي أن مصلحتها في هذا الموقع تتطلب قراراً ليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً مع قرارٍ آخر في موقع آخر، أو متماشياً مع قيمها في حال كانت لديها قيم أساساً، ولعل ثقافتنا كشعوب مشرقية مبادئية ذات مرجعيات أخلاقية، تعيقنا دائماً عن فهم هذه السياسة البراغماتية الغربية لذلك ندعوها بالنفاق الغربي.

ارتكز نولان في عمله على حادثة مهمة في مسيرة أوبنهايمر، حين بدأت لجنة من الكونغرس الأمريكي باستجواب الأدميرال لويس ستراوس عن علاقته بالعالم أوبنهايمر، بعد رفض الأخير الانخراط في مشروع إنتاج السلاح الجديد «السوبر – القنبلة الهيدروجينية، التي تعتبر أكثر قوة من القنبلة الذرية بـ700 مرة» يروي لنا نولان من خلال الفيلم عن الفساد وتلاعب الأدميرال لويس ستراوس بالساسة وتأجيج الرأي العام ضد أوبنهايمر مدفوعا بأحقاد شخصية، كما دفع السلطات الأمريكية لمعادة أوبنهايمر، الذي كان في السابق يعتبر البطل الذي أنقذ أمريكا، لكنهم دمروا صورته وحولوه إلى جاسوس شيوعي وعملوا على إذلاله علنياً. هذه الإضاءة على التلاعب السياسي في أهم دولة ديمقراطية في التاريخ، ليست إلا مثلاً بسيطاً عن الآليات التي تستعملها الدولة الحديثة في سيطرتها على الإنسان، وتجريده من إنسانيته، وفي السياق نفسه يخرج لنا وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت متحدثاً إلى جنوده، واصفاً الفلسطينيين بالحيوانات البشرية مجرداً إياهم من إنسانيتهم فاتحاً الطريق أمام جنوده لإخراج وحشيتهم بأعتى الأشكال وأكثرها دموية.

 هذا النظام العالمي الذي رسمت معالمه في القرن الأخير عبر جانب واحد من العالم، وأخذت صراعاته منحى وحشيا غير مسبوق في التاريخ، وما زالت تحكمه ذهنية استعمارية برداء حداثي، بحاجة إلى التفكيك وإعادة التوازن إليه، ليس عبر النخب السياسية والاقتصادية الحالية فهؤلاء فشلوا وتآمروا على الشعوب. يقول الكاتب الأمريكي شون كينغ، «العالم اليوم يعاني من أزمة حقيقية فهناك فجوة كبيرة بين الشعوب وقادتهم الذين انتخبوهم، أو تم تعيينهم» ويضيف الصحافي البريطاني آدم كرتس في أحدى لقاءاته «إن الأزمة الأخطر اليوم، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن قادة العالم لم يبق لديهم أي رؤى واعدة عن المستقبل ليقدموها إلى الشعوب» وكان الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما قد طرح هذا الأفق المسدود معتبراً إياه «نهاية التاريخ» ويرى آخرون أننا بحاجة إلى بداية جديدة بعد تلك النهاية.

في الختام ينهي كريستفر نولان فيلمه الجديد الرديء السرد والمونتاج والمربك بالأسماء والمعلومات، بالحديث الذي دار بين العالمين الشهيرين أينشتاين وأوبنهايمر حيث يقول الأخير «هل تتذكر سلسلة التفاعلات التي تحدثنا عنها ومن شأنها أن تدمر العالم بأسره، أعتقد أننا دمرنا العالم بالفعل» ولعلهم قد فعلوا.