منْ عرفها .... "أحبها"

منْ عرفها .... "أحبها"
الرابط المختصر

 

تعرف الفلسفة بأنها "محبة الحكمة"، وبأنها "البحث العميق في الأسباب"، و"أم العلوم كلها"و"علم الوجود بما هو موجود"، فإذا كانت الفلسفة تحمل كل هذه المعاني، فلا بد أن تكون مهمة للأفراد والمجتمعات القديمة والمعاصرة، من أجل تطورها و أزدهارها و دعمها للعلوم الأخرى. وقد وعت الدولة الأردنية لهذه الحقيقة فوضعت بين مناهج مدارسها الثانوية مساقاً لتدريس وللتعريف بالفلسفة كان مساقاً ممتازاً، إلى أن جاء الإخوان المسلمون إلى وزارة التربية والتعليم وألغى الوزير اسحق الفرحان سنة 1977 هذا المساق، بحجج دينية تعصبية واهية.

أنشأت الجامعة الأردنية، قسماً للفلسفة فيها، تولى على إدارته والتدريس فيه مجموعة من الأساتذة والمفكرين العرب والأردنيين الرواد، ومنهم (د. صادق جلال العظم، د. عادل ظاهر، د. أديب نايف، د. سحبان خليفات، د. أحمد ماضي، د. فهمي جدعان، د. سلمان البدور، د. سليمان مخادمة،...). وقد قدّموا جهداً علمياً مميزاً في تدريس الطلبة الأردنيين والعرب الفلسفة ومساقاتها، وما زال القسم قائماً يكمل رسالته في التنوير وفي تدريس المنطق والفلسفة، وفي الإعلاء من شأن الفكر النظري والتفكير الناقد، ويخرج هذا القسم عدداً لا بأس به من الطلبة الذين بدورهم يتابعون مسيرة التنمية في المجتمع، ومهمة بناء الوعي الجماعي والفردي.

 

وبجانب الدولة الأردنية أدرك المجتمع المدني الأردني أهمية الفلسفة ودورها في ازدهار المجتمع ووعيه، فأخذت نخبة من المثقفين، وعملت على البدء في نشر هذا الوعي بأهمية الفلسفة ودورها المحوري في بناء الوعي الفردي والجماعي للإنسان والمجتمع الأردني، وقررت تنظيم أفرادها في جمعية أطلقت على نفسها اسم "الجمعية الفلسفية الاردنية"، لتعنى بالدراسات الفلسفية المتنوعة، وبالتنوير الذي تبثه الفلسفة من حولها وخاصة عندما تضع العقل كمرشد وقائدٍ لها، ولا تعترف بأي سلطة عليه. وقد بلغ عمر هذه الجمعية خمسة وعشرون عاماً وهي ما تزال تعمل وتبشر بالوعي في المجتمع الأردني بإمكانيات بسيطة وبجهود تطوعية من أعضائها. وقد وضعت في سلم أولوياتها الاهتمام بالدراسات الفلسفية وتنوير المجتمع الأردني والعربي عن طريق نشر الفكر الفلسفي، بإقامة الندوات والمحاضرات وطباعة الكتب والمجلات وتنظيم المؤتمرات الفلسفية المحلية والعربية، لإحياء التراث الفلسفي للأمة والتواصل مع ما يصل اليه العالم من إنتاج فلسفي جديد، وحلول لمشاكل فكرية عالقة.

عقدت الجمعية أكثر من مؤتمر محلي وعربي عن مواضيع وأعلام فلسفية مثل، وتم نشر أعمال هذه المؤتمرات في كتب موجودة لدى الجمعية، بالإضافة إلى ذلك أقامت الجمعية مئات الندوات الفلسفية وقد ركزت جهودها في السنوات الأربع الأخيرة على إقامة ملتقى الثلاثاء بالتعاون مع رابطة الكتاب، بحيث استمرت والتزمت بالندوة الأسبوعية التي طرحت فيها مواضيع في غاية الأهمية حول الفلسفة العالمية والعربية. مثل فلسفة كل من سقراط، أفلاطون، أرسطو، اغسطينوس، توما الاكويني، ابن رشد، الفارابي، ديكارت، هيغل، نيتشه، فيورباخ، ماركس وانجلز، هايدجر وفلاسفة ما بعد الحداثة مثل جاك داريدا، ميشيل فوكو، هبرماس، فضلاً عن مواضيع فكرية وسياسية راهنة تهم العالم العربي والأردن.

 

ولو أراد أحدهم التساؤل عن جدوى ما تقوم به هذه الجمعية، وعن الأثر العملي الذي تركته على أرض الواقع؟ لكان الجواب أن هذه الجمعية إلى جانب جمعيات وروابط ثقافية وعلمية أخرى لها نفس الأهداف كلها، نقاط ونجوم مضيئة في سماء الوطن العربي المظلمة والطاردة للنور والتنوير في العقود الاخيرة. تصوروا ظلمة حالكة تحيط بالعالم العربي بلا قمر أو نجوم تضيء سمائها وبلا منبر أو منابر للفكر وللعقل الحر، فستكون الظلمة شاملة والظلام دامس. فمع كل الذي جرى ويجري في العالم العربي في العقود الأخيرة من إضاعة البوصلة ومن ثورات للشعوب واحتجاجات وثورات مضادة، إلا أنه في ظل الظلمة الدامسة، كانت هناك شموع تضاء وأنوار تشع لتضيء لمن يريد أن يعرف ولمن يبحث عن الحقيقة، من خلال حوارات ومحاضرات وندوات يحضر فيها العقل ويبقى هو المرشد والقائد ولا يعترف لأحد سواه بالسلطة والهيمنة.

 

عندما كان هناك اقتتال عربي عربي، وحروب أهلية وطائفية ومذهبية والإنسان العربي يقتل بسبب انتمائه وهويته كان هناك مجموعة صغيرة من المثقفيين والمفكريين يتسألون ويبحثون عن طريق نهوض الأمة، وعن طريق لخلاص العقل العربي من أغلاله وظلمته، وكانوا يتداولون فيما يقوله أرسطو وأفلاطون وهيغل وكانط وميشيل فوكو حول الإنسان وأهميته وحول العقل ومركزيته وحول التنوير وإشعاعاته.

 

إلا أن المجتمعات العربية لم تنتبه بعد إلى أهمية الفلسفة في الإجابة على تساؤلات العقل العربي، ويمكن التذكير هنا بما قاله الدكتور عادل ضاهر (مازالت الفلسفة في الوطن العربي بعيدة كل البعد أن تلعب أي دور نقدي في حقلي السياسة والاجتماع وحقل الدين). أما الدكتور إبراهيم بيومي فيقول (والفلسفة في بلدنا بوجه خاص غريبة عديمة النصير والأعوان، لا تكاد تجد من يتحبب إليها ويأخذ بيدها، ولا من يصورها للناس بشكلها الواضح ومظهرها الصحيح).

 

الفلسفة وجمعيتها والمشتغليين بها وجمهورها، مخلصون لها ومحبون للحكمة وللمعرفة وللحقيقة. ويستشعرون أهميتها لهم ولغيرهم وخاصة في هذه الظروف المأساوية، لذلك يرددون دوما نحن بأمس الحاجة إلى الوعي و التنوير و إلى استعمال العقل لنخرج من محنتنا الحاضرة .

ونعرف أن العقل العلمي و الفلسفي هما سبيلنا للخروج مما يحيط بهذا العالم العربي من ظلامية تنبع من داخله بدعوة التمسك بالماضي و بالسلف و توظيف من خارجه لإيذاء هذه الأمة.

لذا علينا أن نعيد تدريس الفلسفة أولا إلى مدارسنا، بل بلأحرى إلى رياض أطفالنا و إلى الصفوف الأبتدائية منها، ليستطيع الجيل الجديد استعمال عقله و فكره و إبداعة .

وعلى الدولة الأردنية ثانيا: تبني فكر و فلسفة تنويرية، بدل هذا الموقف الوسطي الهلامي الذي لا يغني من فقر ولا يسمن من جوع.

وعلى المجتمع المدني ثالثا: التحرر من المسلمات و الخطاب الماورائي الأسطوري الذي اتخمنا الأعلام به و يتبناه رجال الدين و المناهج المدرسية و الذي لم يؤدي إلا إلى تراجعنا المعرفي و الحضاري انجاز الوعي الفردي و الأجتماعي هو السبيل الوحيد لخلاصنا مما نعانيه من قصور معرفي و من كسل عقلي.

 

يعرف الفلاسفة والمثقفون كافة أن مهمة إيقاظ المجتمع و الدولة و الأفراد من نومهم العميق لا يتم إلا عن طريق تحريك الوعي ونقله من مرحلة إلى أخرى.

ويعرفون أن الدرس الفلسفي هو المعنى الأول و المهتم الأول في إيقاظ الوعي والعقل. لذا عندما فهموها و مارسوها عشقوها و عندما تعرفوا عليها أحبوها.

*عضوالجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الدماعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

 

أضف تعليقك