"منسيِّون وخاسرون" لـ تانير آي: ضحايا الأيديولوجيا في تركيا الحديثة
عندما نطالع تاريخ أغلب الثقافات العالمية، نكتشف أن هناك كُتّاباً تُركوا على الهامش، لأسباب عديدة تختلف من بلد لآخر. ولعلَّ تغيّر التاريخ والثقافة بشكل جذري في بلد مثل تركيا هو أحد أبرز الأسباب التي أدّت لنسيان أو تجاهل بعض الكُتّاب والشعراء الأتراك في ظروف مختلفة. من هنا تأتي أهمية كتاب "منسيِّون وخاسرون في أدبنا"، للباحث التركي تانير آي، الذي صدر حديثاً عن "منشورات أوتوكان".
ولعل المفارقة الأبرز في كتاب تانير آي عن المنسيين والخاسرين في الأدب التركي أن كتابه نفسه تعرّض لتهميش ورُفض من أكثر من دار نشر تركية، كما ذكر في مقدمة كتابه، بدعوى استخدامه أسلوباً يتنافى مع القواعد الحديثة لمجمع اللغة التركية، ككتابته بعض الأسماء العربية كما هي مثل "suad"/سعاد وليس "suat" كما تُكتب في التركية الحديثة. وكاستخدامه أيضاً إشارة المدِّ التي كانت تُوضع في بداية الانتقال إلى الحروف اللاتينية بدلاً من العربية فوق الأحرف الصوتية الثقيلة مثل حرف الـ"A" في كلمة "Âdem"/آدم، كحرف المدِّ في اللغة العربية. وكان استخدام هذه الإشارة مقتصراً على الكلمات الدخيلة على اللغة التركية، وبالأخص في الكلمات المأخوذة من اللغة العربية.
إلا أن الباحث لم يتنازل عن موقفه اللغوي حتى نُشر أخيراً الجزء الأول من كتابه دون إجراء أي تعديلات على أسلوبه في الكتابة. وقد جذب الكتاب اهتمام العديد من القرّاء والنقاد في تركيا، وسوف تصدر ثلاثة أجزاء أخرى من الكتاب خلال هذا العام. وكما يبدو من العنوان ، فإن الباحث يخصّص كل فصل من فصول كتابه إلى عرض الحياة الشخصية لكاتبة أو كاتب منسيّ، والعوامل التي أدّت إلى نسيانه، بالإضافة إلى تسليط الضوء على أهمية أعماله الأدبية. ويُلاحظ أن بدايات كل فصل تحمل صورة فوتوغرافية للكاتب تحتها اسمه مع خلفية باهتة للصفحة، ما يجعل بدايات فصول الكتاب كشواهد القبور.
يضم الجزء الأول من كتاب تانير آي 22 كاتباً وشاعراً أغلبهم لم يُدرجوا في معاجم الأدباء، رغم أن بعضهم كتبوا عشرات الكتب وحققوا شهرة واسعة في عصرهم، والبعض الآخر نُشرت أعمالهم في الصحف والمجلات ولم تُجمع في كتاب. إلا أن المصير المشترك لكل هؤلاء هو "النسيان".
ويبدو واضحاً منذ البداية أن الباحث غير راض عن الروايات المتداولة حول غياب أسماء أمثال هؤلاء الكُتّاب، لذلك نجده يبحث في كتابه عن رواية مختلفة من خلال مقارنة المصادر بعضها ببعض، وتنقية هذه الروايات من "الأخطاء الشائعة" التي يعتبرها الباحث إحدى أكبر مشاكل التأريخ الأدبي، لأن الخطأ الشائع يصبح مُتداولاً بمجرد أن يذكره مؤلف "موثوق به".
أحد أبرز الشخصيات اللافتة للانتباه في كتاب تانير آي، هي الشاعرة العثمانية يشار نزيهة بوكولماز (1882-1971)، التي يعتبرها الباحث نموذجاً واضحاً لضحايا الأيديولوجيا في تركيا الحديثة. فمن المعروف عن بوكولماز، كما يذكر المؤلف، أنها كانت من التيار المحافظ في تركيا، إلا أنها كانت تساند في أشعارها الحركات والإضرابات العمالية، وقد نشر لها ابنها بعض القصائد في مجلة "أيدِنْلِيك" المعروفة بتوجهها اليساري آنذاك، ولاقت أشعارها رواجاً كبيراً. وفي عام 1923، تم اعتبار إحدى قصائدها أولَ قصيدة عن عيد العمال بتركيا في الأول من مايو/ أيار. وفي عام 1925، اعتُقلت بوكولماز مع بعض محرري مجلة "أيدنليك" بتهمة الشيوعية، وبعد إطلاق سراحها، وبينما كان الصراع محتدماً بين التيارات التركية المختلفة، لم تجد بوكولماز مكاناً لها بين تيار المحافظين مرة أخرى بسبب وصمها بالشيوعية، ولم تعد قادرة أيضاً على نشر قصائدها في المجلات والصحف اليسارية لاعتبارها من التيار المحافظ. ورغم استمرارها في كتابة الشعر، إلا أنها حوصرت بهذه الطريقة وغاب اسمها مع قصائدها في تركيا حتى الآن.
من بين الشخصيات الأدبية المنسية التي ضمها الكتاب أيضاً، الشاعر عثمان فخري (1890-1920)، وهو الأخ الأصغر للشاعر والكاتب التركي المعروف جناب شهاب الدين، الذي طغت شهرته على شهرة أخيه، فلم يعد اسم فخري متداولاً الآن، رغم اهتمام النقاد والشعراء بتجربته أثناء حياته، واعتباره أحد أبرز شعراء تيار "ثروة الفنون". وكان انتحار فخري وهو في الثلاثين من عمره والشهرة الطاغية لأخيه في تركيا، سبباً في تحويله من شاعر يتصدر صفحات المجلات الأدبية إلى شاعر مهمّش لا يتذكره أحد.
يعلّق في النهاية على مسألة اختفاء قبور بعض هؤلاء الكتاب
يورد الباحث أيضاً نماذج لكُتّاب فضّلوا أن يقضوا حياتهم بعيداً عن أوساط الكُتّاب والمثقفين. ومن أبرز هذه النماذج الروائي عثمان جمال قايجلي (1890-1945)، حيث يرى تانير آي أنه فضّل العيش بين أبطال رواياته من المهمشين في أحياء إسطنبول القديمة، مكرّساً حياته للكتابة عنهم وعن الحياة الليلية للمدينة في نهايات الدولة العثمانية وبداية الجمهورية. وقد تسبّب ابتعاد قايجلي عن الأوساط الثقافية في نسيانه رغم تنوّع أعماله المهمة بين الروايات والمجموعات القصصية والمسرح والدراسات حول الأدب الشعبي، وهو صاحب أول قاموس تركي بالعامية.
وبالإضافة إلى تناول الباحث كتَّاباً منسيين تعرّضوا للعديد من المظالم في حياتهم، فقد أورد أيضاً نموذجاً لأحد الكُتَّاب الذين برزوا في حياتهم بشكل كبير ثم انتهت شهرتهم بشكل مأساوي. ومن أبرز هذه الأسماء، الروائي والصحافي برهان جاهد موركايا (1892-1949)، الذي أصدر أكثر من ثلاثين رواية وحظي بشهرة واسعة في حياته، حتى صار من أكثر الروائيين قراءة في تركيا خلال الثلاثينيات، لكن كتبه اختفت مع اسمه اليوم. رصدت روايات موركايا التغيرات الاجتماعية والثقافية في الجمهورية التركية الوليدة، وكان صحافياً بارزاً أيضاً، كما عمل في السياسة وصار نائباً في البرلمان. إلا أن أحد البرلمانيين اتهمه بأنه غيّر اسمه في شبابه ليهرب من العسكرية، وبعد التحقيقات، تأكد البرلمان من صحة الاتهام وقام بفصله، وانزوى موركايا وأصيب بالشلل ولم يعد اسمه متداولاً بعد ذلك، رغم حياته المليئة بالكتابة الأدبية والصحافية.
الصورة
عوامل عديدة ذكرها الباحث تسبّبت في نسيان كاتب، من بينها ما يتعرض له خلال حياته كما حدث مع الشاعر حسن تانريكوت (1917-1981) الذي انخرط في الحركات الشيوعية وتعرّض لاضطهاد شديد في حياته، حتى قال عنه الشاعر التركي الشهير أتيلا إلهان: "الفاشية أكلت حسن"، إلا أن تانير آي في كتابه لا يكتفي بأسباب اضطهاد الأنظمة السياسية كاتباً ما، ويرى أن ثقافة الشِلليّة من الممكن أن تقضي على الكاتب، ولن ينشر له أحد أو يهتم بتجربته، مهما كان جيداً، ما دام خارج المجموعات الأدبية. يتضمّن الكتاب العديد من القصص المثيرة لكُتّاب منسيين آخرين، والنهايات المأساوية لبعضهم، من خلال تتبع حياتهم الشخصية وحياة أبنائهم من بعدهم.
أخيراً، يعلّق الباحث في نهاية كتابه على مسألة اختفاء قبور بعض هؤلاء الكتاب، كقبر الشاعر والكاتب المسرحي إبراهيم شناسي (1826-1871)، أحد أهم الأسماء الأدبية في عصر التنظيمات العثمانية، وقد حلّت محل قبره بناية إسمنتية حديثة، كما هُدمت المقابر التي تضم قبر الكاتب عثمان جمال قايجلي، الذي صوّرت رواياته أحياء إسطنبول القديمة، وصارت طريقاً. لذلك، يعلق تانير آي تحت صورة قايجلي واسمه بجملة "راح قبره كما راحت إسطنبول التي كتب عنها".
* مترجمة من تركيا