عن عبء الرجل الأبيض: الرياضيات وأشياء أخرى!

لم يمر أكثر من ثلاثين عاما بين ظهور القصيدة الأكثر إثارة للجدل حول الإمبريالية الغربية، وهي (عبء الرجل الأبيض White Man's Burden) سنة 1899 للشاعر البريطاني (رديارد كبلنغ)، وصدور رواية (الصخب والعنف The Sound and The Fury) لوليم فوكنر سنة 1929.

 

قدر للقصيدة أن تجود بها قريحة واحد من أقدر شعراء الإنجليزية عبر تاريخها، فجاءت معبرة بقوة عن وجهة نظر استعلائية ترى في الرجل الأبيض الأوربي إنسانا ذا رسالة حضارية سامية، تحتم عليه أن يأخذ بيد الشعوب غير البيضاء إلى الحضارة، ويتحمل في الوقت ذاته لوم وكراهية وتذمر أولئك الملونين!



ومن الثابت تاريخيا أن (كبلنغ) كتب القصيدة مهيبا بالأمة الأمريكية وصناع قرارها أن يضموا إلى سيادتهم جزر الفلبين، في خطوة نحو التوسع الإمبراطوري، واتساقا مع بنود معاهدة باريس التي أنهت الحرب الإسبانية الأمريكية. لكن مضمون القصيدة يتخطى بالطبع ظرفها التاريخي ليثير مسألة تفوق الإنسان الأبيض على إطلاقها.

 

أما رواية فوكنر الأشهر فتدور حول أسرة (كومبسون) المنتمية إلى أرستقراطية الجنوب الأمريكي الذي بدأ اضمحلاله مع الهزيمة في الحرب الأهلية الأمريكية. تعكس أحوال الأسرة هذا الاضمحلال على كل الأصعدة، اقتصاديا وخلقيا وفكريا، فالأب مدمن خمر عدمي لا ينتفض لفجور ابنته (كانديس)، والابن الأكبر (كونتن) الذي ضحت الأسرة ببعض ممتلكاتها ليلتحق بهارفارد صاحب مثاليات، لكنه غارق في شعوره بالعجز عن تغيير الواقع المرير حتى ينتحر في النهاية، و(كانديس) تفرط في عفتها بسهولة وتتحول إلى وصمة عار في جبين الأسرة، و(بنجامين) الأخ الطيب متأخر عقليا، وقد أراد لنا فوكنر أن نرى الأحداث من وجهة نظره أولا قبل أن ننتقل إلى أخيه المثقف المكتئب المقدم على الانتحار!

 

ووسط هذا الانهيار الكامل لعالم الإنسان الأبيض تقف شخصية (دلسي) الخادمة السوداء متماسكة وفية لمخدوميها البيض رغم إساءتهم معاملتها أحيانا، محبة وراعية لابنهم (بنجامين) المسكين. 



واللافت أن أحداث الفصول الأول والثالث والرابع من الرواية ذات الفصول الأربعة تقع بين يومي الجمعة العظيمة Good Friday وأحد عيد القيامة Easter Sunday سنة 1928، وهو ما حفز بعض النقاد إلى تأويل النص دينيا، فرأى بعضهم أن (بنجامين) يمثل صورة المسيح في العصر الحديث وافتقاده القدرة على إنقاذ هذا العالم.

 

ومن المثير أن الخادمة السوداء تصطحب (بنجامين) إلى كنيسة الملونين يوم عيد القيامة لتأخذ بيده إلى الخلاص المسيحي، فهل كان (فوكنر) يلمح إلى ضرورة تسليم راية تأويل تعاليم المسيح إلى الملونين؟! هل كان يرى أن السود ربما كانوا أقدر على إقامة مسيحية جديدة أكثر إنسانية وبالتالي أوفى لروح المسيح؟! لعل ملمحا آخر في السرد يلفتنا إلى موقف فوكنر، حيث جاءت الفصول الثلاثة الأولى مروية بلسان ثلاثة من أبناء (كومبسون)، بينما جاء الفصل الرابع الذي يركز على (دلسي) وأسرتها وعلاقتهم ببنجامين بلسان راو عليم، فكأن (فوكنر) قرر أن يأخذ صف (دلسي) وأسرتها ويتماهى مع موقفهم منتصرا لوجودهم المتماسك خلقيا وإيمانيا.



المهم أن ما مر بالإنسانية من كوارث من صنع الإنسان الأوربي الأبيض في تلك الأعوام الثلاثين الفاصلة بين النصين – لاسيما مجازر الحرب العالمية الأولى – لم يكن آخر الكوارث، فقد نشبت حرب عالمية ثانية أفظع، واستمرت المذابح والكوارث والانتكاسات الإنسانية إلى يومنا هذا، ولا يخفى تحمل العرق الأوربي الأبيض مسئولية كثير منها، وهو المتربع على قمة هرم الحضارة الحديثة. ورغم تصاعد وتكاثر الحركات السياسية الاجتماعية والدينية المطالبة بإعطاء السود حقوقهم المدنية في مجتمع الصخب والعنف الأمريكي الذي مثل المجتمع الحلم لقطاعات كبيرة من البشرية في القرنين الأخيرين، إلا أن الحلم الأمريكي ظل محتفظا داخل أعمق أعماقه بعقدة تفوق الإنسان الأبيض والعبء الحضاري الذي يحمله، وإن كان لا يستطيع تحمل تبعاته الخلقية التي تحدثت عنها قصيدة (كبلنغ)!

     

تحدثنا الباحثة المصرية (رضوى داود) طالبة الدكتوراه في نظرية الكم وفلسفتها بجامعة شيكاغو، عن حكاية تكرر سماعها لها باختلافات طفيفة. طفل أسود مميز في دراسة الرياضيات، يمنع من مواصلة الدرس في المستوى المتقدم من مسار الرياضيات، ببساطة لأنه أسود. المعضلة هنا أن المستوى المتقدم في الرياضيات في المدرسة المتوسطة والعليا هو الذي يساعد الطلبة في الالتحاق بالجامعة من خلال المنح الدراسية! أو هو الذي يتيح لهم الالتحاق بالجامعة من الأساس! تضيف (رضوى داود) أن هذا الموقف يصم هؤلاء الطلبة وصمة غائرة، فهو صوت سيظل يلح عليهم طيلة أعمارهم أنهم أقل ذكاء أو غير قادرين على التميز في العلوم والتجارة، فقط لأنهم أصحاب بشرة داكنة!   

 

والحق أن هذا التعنت العنصري يفصح عن شكل من أشكال الجمود الفكري والوجداني عند أصحابه، خاصة إذا عرفنا أن لأصحاب البشرة السوداء إسهامات محترمة في الرياضيات منذ أواخر القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة، أي منذ تأسيس الدولة تقريبا! فهناك (بنجامين بانكر Benjamin Banneker) صاحب التقاويم الفلكية الدقيقة وتوقعات الكسوف الشمسي التي لم تخب، والذي راسل (توماس جفرسون) - أحد الآباء المؤسسين للدولة وكاتب إعلان الاستقلال – عام 1793، بخصوص ضرورة وجود وزارة للسلام الاجتماعي تضمن إنهاء التفرقة العنصرية! 



وهناك (تشارلز ريزن Charles Lewis Reason 1818- 1893) الذي كان طفلا معجزة في الرياضيات ووصل إلى كرسي الأستاذية في كلية نيويورك المركزية (مكجروڤل) كأول أفريقي أمريكي يصل إلى ذلك في كلية للبيض. وهناك إلبرت ككس Elbert Cox أول أفريقي أمريكي يحصل على دكتوراه الرياضيات سنة 1925. أما أول امرأة سوداء البشرة تحصل على الدكتوراه في الرياضيات فكانت مارثا يوفميا هاينز Martha Euphemia Lofton Haynes سنة 1943.



هذا فضلا عن (داڤيد بلاكول David Blackwell 1919- 2010) صاحب الإسهامات المعتبرة في نظرية المباريات Game Theory والإحصاء البيزي Bayesian Statistics ونظرية الاحتمالات. وكاثرين جونسون  Katharine Johnson(1918-2020) التي لعبت حساباتها الدقيقة في الديناميكا الفلكية Astrodynamics دورا محوريا في إنجاح أول الرحلات الأمريكية إلى الفضاء. والقائمة مستمرة بالتأكيد! 

 

بعد مرورنا السريع على أسماء هؤلاء، يبدو أن التعنت العنصري لدى ممارسيه لا يبرره إلا نمط من التربية يكرس مثل تلك الأفكار المغلوطة لدى الأطفال في أسر البيض. ويبدو أن انصباب هذا التعنت على دراسة الرياضيات بالتحديد يعود إلى الدور الخطير الذي يلعبه هذا الحقل المعرفي في الحضارة، فالأبنية الرياضية والإحصائية أبنية عقلية مجردة، تمثل الخيط اللطيف الذي ينتظم كل صنوف النشاط البشري فضلا عن انتظامها مظاهر العالم الطبيعي من حركات أصغر الجسيمات تحت الذرية إلى أكبر المجرات. وطالما للرياضيات هذا الخطر، فلابد أن تكون حكرا على الإنسان الأبيض صاحب العبء والرسالة اللذين تغنى بهما (كبلنغ) ومن لفوا لفه! 

 

لقد أصبحت (دلسي) عالمة (هي كاثرين جونسون)، تخلد وكالة (ناسا) اسمها، وتحول حدبها الأمومي على المسكين (بنجامين) إلى معادلات معقدة تحمل رواد الفضاء الأمريكان على اختلاف ألوانهم إلى خارج مجال الجذب الأرضي.

 

أما عازف الپيانو الأسود الذي لا يحمل اسما، ذلك الذي تتصاعد من بين يديه أولى إرهاصات موسيقى الچاز في حانة بـ(نيوأورليانز) في مسرحية (عربة طريق اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire) لتنسي وليمز، هذا العازف أصبح (مايكل جاكسون) الذي عصف صوته وخطوات رقصه برؤوس البشر من أقصى الأرض إلى أقصاها، أو فلنقل إنه أصبح (مورغان فريمان) الممثل العظيم الذي مازال أثر صراع الخروج من العبودية باقيا في اسم عائلته، والذي جسد دور الرب في فلم (بروس القادر Bruce Almighty) عام 2003، بغض النظر عن موقفنا من هذا التجسيد! كل هذا ومازال التمييز العرقي باقيا في المجتمع الأمريكي، ناطقا بكثير من الصخب والعنف، شاهدا على أن عبء الرجل الأبيض لم يكن من البداية إلا أوهامه العنصرية، وقد أثقل كاهله هذا العبء، وعليه أن يطرحه قبل أن ينهار تحت وطأته!  

أضف تعليقك