سؤال القصة... قصة السؤال
أن تكتبَ قصّةً هو أنكَ تحاذي حكاية ًما، تناوشها، تتأملها، دون أن تقعَ في وهمِ أنكَ تقولها. دون أن تعتقد بأنكَ مُطالَبٌ بأحداثٍ تفصيلية تُقْنِعُ غيرَكَ بصدقها، أو أن تشعرَ بِسِواكَ يشاركك ما تقوم بـه ويُسائلكَ؛ وإلّا
فإنكَ لا بُدَّ ستسقطُ في الارتباك والتلعثم، وبذلك تُفْسِدُ عملكَ وتحكم عليه بالفشل!
ليس من كتابةٍ على الإطلاق تتساوى والواقع الحياتي، أو تتطابق معه، أو تُجْتَرَح لتصبحَ نسخةً ممثلةَ له. وإني حين أتحدّث عن الكتابة هنا؛ فإني أقصدُ ضروبَ السرد الأدبي الفني تحديداً، وأكاد أسمّيها بأسمائها: القصة القصيرة، والرواية، والسيرة الذاتية أيضاً. نعم، حتّى السيرة عندما تُكتب على نحوٍ أدبي، معتمدةً الرجوعَ للماضي عبر الذاكرة الماكرة، النَّسَّاءة أو المتناسية.. وبالتالي المنتقية؛ فإنها إنما تشهدُ على نفسها بمخالفتها لـ"الحقيقة"! حقيقة ما جرى قبلَ... هل أقول: قبلَ أربعٍ وعشرين ساعة؟ سأقولها: ما نكتبه إزاء ما حدث قبل يومٍ واحد، أكثر قليلاً أو أقلّ كثيراً، ليس هو الحدث تماماً الذي كُنا شهوداً عليه. فثمّة إعادة إنتاج لمجرياته، وكلّ واحدٍ منا يُدلي بشهادته/ كتابته بتباينات هنا أو هناك ليتحوَّل، بالتوالي والتكاثر، إلى مجموعة أحداث قد تتناقض، فيولدُ عندها سؤالُ الحقيقة: يولدُ بعدها سؤالُ الكتابة.
ضاعت "الحقيقة" في زحمة الشهادات المختلفة عنها، وكثرة الشهود، وحضرَت "القصص" المكتوبة مستقلّةً بذاتها، وبذاتها فقط.
وهكذا، وإذا ما صادقنا على ما سَلَف، فإننا نكتبُ الحقيقةَ على نحونا، بإدراكٍ كامل ووعيٍ حادّ، مفارقين ومشاكسين ومشاغبين وبالغين قلبَ "الكذبة" – بالمعنى الأخلاقي البسيط والبريء! ومَن يشاء أن يصدِّق فلا بأس، ومَن يشكك فأمرٌ مرغوب، ومَن يرتضي "عَيش" الكذبة متحسساً لها رائياً فيها متعةً.. فلقد بلغَ ما بَلْغنا، وما بَلَّغنا!
إذَن؛ ماذا نبتغي، وما هو بلاغنا؟
لماذا نكتب القصص؟
* * *
أخرجُ من التعميم لأدخلَ التخصيصَ وأتحدّث عن تجربتي.
لماذا كتبتُ القصص، في حين أنّ عشرات وعشرات من كُتّابها تكاد تضيقُ بمجموعاتهم المكتبات؟ وحال طرحي لسؤالي هذا وتدبري أمرَ الإجابة عنه؛ تساءلتُ إذا ما كنتُ كسواي أملكُ أسبابهم، أو أنهم مثلي في سببي؟ وبالتالي؛ هل يجوز لي الافتراض بأننا جميعاً كتبنا وما زلنا نكتب القصص وفقَ رؤية واحدة للكتابة؟ لكتابة هذا الجنس الأدبي تحديداً؟
أزعمُ، ومن خلال حصيلة قراءاتي عبر أكثر من ثلاثين سنة، أنّ لكلّ كاتبٍ رؤيته الخاصّة المخصوصة للقصة التي يكتبها. ودليلي على زعمي يَمْثلُ في "الشخصية" التي تتحلّى بها قصة هذا، المفارقة لـ"شخصية" قصة ذاك، وهكذا. وإنها لشخصية تتمدد في ملامحها وتتجلّى في جميع نصوصه، بحيث يصير لنا القدرة على تخمين صاحبها حتّى وإنْ خَلَت من اسمه. ومع ذلك؛ عليّ أن أُقدّمَ تفسيراً لما أعنيه بالشخصيّة: أهي اللغة بقاموسها الأثير لديه؟ أم توالي كتابته عبر جُمَلٍ قصيرة اسميّة أو فِعْليّة؟ أم طريقته في تراتبية تشييده لمعمار النصّ تقديماً وتأخيراً للشريط الزمني؟ أم تفضيله النهايات القاطعة أو المفتوحة؟ أم حرصه الشديد على الالتزام بوضع علامات الترقيم في مواقعها.. وبحسبه هو طبعاً؟ إلخ.
نعم، إنها ذلك كلّه لكنها أكثر، وهذا الأكثر هو الأهمّ (وفقاً لتجربتي) ويتمحور في رؤيتي للحدث، أو الحالة قيد الكتابة، والتي من دونها تنتفي "الحاجة" للنصّ القصصي. الرؤية إلى الحدث والحالة – كما أعاينهما من خارجهما، والرؤية في الحدث والحالة كما أعالجهما بلغةٍ ومعمار (أو بتركيب لغوي ومعماريّ بالأحرى) بحيث أحقق من قصتي أمرين اثنين:
أن لا أقول مقرراً، بل أكون موحياً من غير حَسْم.
وأن أعمل، بقدر خبرتي الكتابية، على تضمين القصة تساؤلاً متشككاً يتصل بواحدة من "يقينيات" السائد الاجتماعي - إنْ كان خاصَّاً بمفهوم الخير والشر مثلاً، أو التماسك الظاهر للأفراد وبُطلانه.
فالعالَم، كما بدا لي منذ مجموعتي القصصية الثانية "طيور عمّان تحلّق منخفضة"، ثم في الثالثة "إحدى وعشرون طلقة للنبيّ"، لهو عالمٌ تكتنفه التساؤلات ومناطق الغموض ومساحات الالتباس، وبالتالي عالمٌ ينأى عن "أُطُر" اليقين والإجابات المغلقة. هكذا بدا لي، وربما ترافقت هذه الرؤية مع الحقبة التي بدأَت فيها النظريات الكبرى ودولها ومؤسساتها بالتفكك والانهيار! ليس في قولي هذا أبعاد أيديولوجية، أو فكرية سياسية، كما أعتقد؛ بل ربما لأنني شخصيَّاً بِتُّ أعاينُ التجمعات والأفراد من حولي في حالات من التغيُّر والتبدُّل إلى درجة يصعب فيها التكهّن بما سيكون منها ومنهم! أي أنّ أفق التوقع أصبح أكثر من شاسع، ما يعني أني أتحرك في وسطٍ مخاتل، وأعمل داخل مناطق الظلال!
وها أخيراً بِتُّ في أرض السؤال. وهذا ما جعلني أستعيدُ ثلاثةَ اقتباسات جعلَتها الشاعرة اللبنانية جمانة حدّاد عناوينَ للتمهيد الذي شرعَت به كتابها الحواري "صُحبة لصوص النار"، إذ تناولَت السؤال من خلال ثلاث رؤى. الأولى من كونفوشيوس: "لا أستطيع شيئاً لمن لا يطرح الأسئلة"، والثانية من فرانز كافكا: "أسئلة لا تحمل أجوبتها فيها ليست جديرة بأي جواب"، والثالثة من موريس بلانشو: "الجواب هو بؤس السؤال.".
في قولة كونفوشيوس، رأيتُ أنّ الإنسان الذي تخلو حياته من السؤال إنما هو إنسانٌ خَلا من معناه الكائن في المعرفة المتجددة، ولن يكون حكيماً أبداً.
وفي قولة كافكا، قرأتُ أنّ مَن يطرح السؤال ليس بالضرورة لا يملك جواباً، بقدر ما يريد امتحانه عبر محاورته لغيره من جهة، وامتحان غيره على شفرة السؤال.
أما في قولة بلانشو، فلقد فهمتُ منها أنّ الإجابات لا تعدو كلاماً لا يُجيب حقّاً، تماماً كالسؤال الخائب إذ أمِلَ في أمرٍ لا وجود له. كلاهما تعبيرٌ عن بؤس، وما البؤس هنا إلّا وجه العالَم الذي نعيش.
أين أنا في سؤالي من تلك الرؤى؟ هل أوافق عليها جميعاً؟
نعم، إني أوافق، وبِنِسَب متفاوتة. وما القصص التي كتبتها، وخاصة في المجموعات الأربع الأخيرة، سوى تمثيلات مختلفة لتلك الأبعاد – بحسب ما أزعم. تمثيلات دفعَت بقصصي المنشورة في آخر مجموعة، "حقول الظلال"، لأن تتمرد على نصوصي السابقة لتفتحَ فيها ثغوراً أفضت بها إلى نصوص هجينة! نصوص فيها من "القصة" قَدْرٌ، وفيها من مركبات سردية تأملية تتساءل وتحتار قَدْرٌ أكبر، فتوقفت عندها على باب سؤالي الجديد: ما هذا الذي أكتبه؟
وما زلت واقفاً حتى الآن، أطرحه عليَّ، أمامكم، وهنا.
*المقال هو شهادة للكاتب قدمها في مشروع "الملتقى" في الكويت العام الماضي.