دين المستقبل - 2

دين المستقبل - 2
الرابط المختصر

هل يمكن تخيل دين جديد للإنسانية في مدى طويل الأمد يلزم تحققه قروناً عديدة قادمة؟. لا يتموضع هذا السؤال في عالم الخيال بل في استشراف عالم المستقبل، الذي يساعدنا على فهم حاضرنا. وقبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا الإجابة عن الذي يسبقه؛ ماذا سيحل في الديانات القائمة الآن، هل ستندثر أم ستتغير من شكل إلى آخر؟ وهل ستواكب الإنسان إلى نهاية التاريخ؟ في هذا الجزء يكمل الدكتور جورج الفار ما بدأه ف

 

هل هناك عقيدة أو أيديولوجية أو دين لا يفنى أبداً؟ العقيدة والدين والأيديولوجية الوحيدة التي تبقى ما بقي الإنسان هي "دين الإنسان". فما هو دين الإنسان؟ أليس له اسم آخر؟ متى بدأ ومن سمع به؟

 

بدأ "دين الإنسان" مع بداية وعي الإنسان البدائي للعالم والكون الذي يعيش فيه، وقبل أن يعي الإنسان ذاته وعياً حقيقياً. لا نستطيع تحديد الفترة الممتدة إلى ما قبل التاريخ والتي تخبر عن هذا الإنسان، إلا أن بعض العلماء يقولون أن لدينا أول شواهد في التاريخ لشعائر دفن الموتى يقدر عمرها بنحو 120 ألف سنة قبل التاريخ. كما لدينا رسومات على جدران الكهوف تصور حيوانات من البيئة المحيطة يقدر عمرها 28 ألف سنة قبل الميلاد.

 

مع ظهور الكتابة المسمارية والسومرية ثم البابلية لدينا شواهد واضحة على ديانات سادت في بلاد ما بين النهرين، كما أن لدينا ملاحم تخبر عن الخلق والطوفان وصراع الآلهة وانفصال السماء عن الأرض يقدر عمرها بستة آلاف سنة، منتشرة شفاهياً أو كتابياً لدى شعوب مختلفة ممتدة من أستراليا والصين والهند إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، فيها كثير من العناصر المتشابهة وأخرى متباعدة، حول تصور هذه الشعوب لبدء العالم ومن ثم للكارثة التي حلت به، ولانفصال السماء عن الأرض.

 

كما نعرف أن أقدم جماعة بشرية تحمل نفس الجينات المتوارثة هي السكان الأصليين في أستراليا ويقدر عمرها بخمسين ألف سنة، فهل لهذه الجماعة دين وعقائد ومعتقدات؟ نعم مجموعات من المعتقدات المرتكزة على " Tamtam طوطم" و"التابوا Taboo" والفصل الواضح ما بين المقدس والمدنس، الطاهر والنجس، الخير والشر، لم تؤطر هذه الشعوب ديانتها بشكل نظري، إنما تمارسها وتتوارثها أب عن جد، بشكل بدائي أقرب إلى السحر والأسطورة.

 

إلا أن كل هذه الشعوب ما زالت تعيش في عالم الميثولوجيا/ الأسطورة أو ما يسمى عالم طفولة الإنسان الدائمة حيث لا يقام فصل واضح بين عالم الواقع وعالم الحلم، فقد تصور الإنسان البدائي أن هناك عصر ذهبي وعصر الخواء الذي يعيش فيه، وهما وجهان لواقع متخيل واحد. فالإنسان الأسطوري الميثولوجي لا يفصل بعد بين الحلم والواقع.

 

يمكننا أن نخمن أن دين الإنسان بدأ مع طفولة العالم حيث كوّن الإنسان صورة على حلم معين يسميه بعضهم "العهد الذهبي" أو "جنة عدن" أو "الفردوس المفقود"، وهذه الاعتقادات تنسجم مع تصورنا لطفولة إنسانية حلم فيه بأنه أعطي له فردوس أرضي، عاش فيه وشهد بداية كل شيء، حتى إذا خرج منه اضطرّ إلى كسب خبزه بعرق جبينه، يبدو هذا العالم زمن البطالة والبحبوحة والتبذير الذي يهرب إليه الإنسان ويرجوه عبثاً، حين يلقى نفسه محكوماً بالعمل والعوز والادخار.

 

"الميثولوجيا تميز وتعارض منشئه التعاقب ما بين خواء وعصر ذهبي يبدوان وجهين لواقع متخيل واحد، واقع عالم لا يخضع لأي قاعدة، يفترض أن يكون قد خرج منه العالم المنظم الذي يعيش فيه البشر حالياً، لكنه يتعارض مع عالم البشر هو تعارض عالم الأسطورة مع عالم التاريخ الذي يبدأ حيث ينتهي الأول، وأيضاً، تعارض عالم الحلم – الذي يتسمى تلقائياً – مع عالم اليقظة"([1]).

 

يمكننا أن نكتشف العناصر الأربعة التي دفعت الإنسان إلى اختراع دينٍ له وهي:

أولاً: الحلم الطفولي الذي عاشه الإنسان البدائي الذي لم يفصل بين ما هو متخيل وما هو واقعي حقيقي، ما هو أسطوري وما هو تاريخي.

ثانياً: ميل الإنسان إلى الهرب من الواقع المرير إلى زمن آخر فيه البحبوحة والتبذير، بينما واقعه يفرض عليه العمل والعوز والادخار.

ثالثاً: الخوف من المجهول، فالطفولة البشرية كانت تقف أمام طبيعة لا تستطيع لها تفسيراً، فيها الرعود والبروق والأمطار والزلازل والبراكين، فيها الحر الشديد والبرد الشديد، فيها تتبدل الفصول، فمن هو المسؤول عن كل ذلك؟ وهذا الطفل الإنسان ليس مسؤولاً ولا آمراً ولا ناهياً، إنما متلقٍ فقط، لما تنزل به الطبيعة من ويلات وعليه أن يخافها ويرهبها، ثم أن يجد لكل ذلك تفسيراً.

رابعاً: الأسئلة الوجودية الكبرى التي طرحها الإنسان على نفسه، من أين جئت؟ إلى أين أذهب؟ هل سأنتهي؟ ما معنى أن تنتهي حياة كل حي بالموت؟ ما معنى الموت ذاته؟

 

لم يبق دين الإنسان البدائي على حاله، فقد تطور ونضج بنضوج الإنسان وباتساع مداركه، أما عن سبب استمرار وبقاء "دين الإنسان" فمرتبط بتطور هذا الدين ذاته وباستطاعته التأقلم مع الأحوال الجديدة التي انتقل إليها الإنسان. فعندما انتقل الإنسان البدائي من الحالة البدائية إلى الحالة الحضارية مثلاً، نقل وطور دينه ليتأقلم مع الحالة الجديدة، فللإنسان جامع الثمار دين بسيط واحد، وعندما انتقل الإنسان البدائي إلى مرحلة الصيد، طوّر دينه (ربما كانت الصور المرسومة على جدران الكهوف للحيوانات التي كان الإنسان يصطادها ويتغذى على لحمها لغايات العبادة أكثر منها كتعبير فني)، وعندما انتقل بعدها الإنسان من مرحلة الصيد إلى مرحلة الزراعة، انتقلت معتقداته وتأقلم دينه معه، فصارت ديانته تعبر عن حاجاته الجديدة، وصار يقدم ثمار الأرض إلى الآلهة (قصة قابيل وهابيل)، وبعد انتقاله إلى المرحلة الصناعية، حيث برزت الفردية بين سكان المدن، تطورت ديانته معه، فصارت علاقته علاقة فردية مع الخالق دون المرور بالجماعة، وغاب السحر والشعوذة عنها، وها هو الآن في المرحلة الإلكترونية، ستتطور ديانته معها حتماً. دعونا نرى طرق استفادته من الإنترنت ومن وسائل الاتصال الجماعي، فنحن نراه يرفع صلواته على Facebook وعلى تويتر ويحاور محاورات دينية عبر الإنترنت مستعملاً كل الوسائل التكنولوجية المتاحة لغايات دينية. إلا أن الأهم ليس استعمال الآلة والتكنولوجيا إنما تصور الإنسان لذاته وللكون الذي يحيط به، فأنت تراه الآن يتبادل مع ملايين البشر صوراً لمركبة فضائية تحط على المريخ مثلاً، أو صوراً لتشكيل إعصار معين في طبقات الجو العليا، أو صوراً لبراكين في حالة "ثوران" دون أن يقول كلمة دينية واحدة، أو أن ينسبها إلى قوى خارقة أو إلى الآلهة أو غضبهم أو رضاهم، فقد حلت الصورة المباشرة محل التصورات القديمة التي كان يخترعها في ذهنه ويغذيها في خياله، وحلت التفسيرات العلمية بدل التفسيرات الأسطورية التي كان يتصورها للظواهر الطبيعية، وقبل الإنسان الحديث بمبدأ كانط المنطقي " أن لكل ظاهرة طبيعية سبب طبيعي"، دون نقاش أو عناد.

 

ومع تطور كل هذه العلوم استمر دينه –دين الإنسان- يتطور معه ويتأقلم مع الظروف الجديدة والمراحل الكبرى التي عبرها منذ بدايته الأولى إلى تكنولوجيته وعلميته الأخيرة، فما هو السر في هذا الدين؟ السر يكمن في المواكبة والتأقلم والتطور والديناميكية التي يتمتع بها "دين الإنسان" فدينه البدائي والأصلي من اختراع عقله وحياته التي أملت عليه نوع تصوراته وأنتجت حالته النفسية والعقلية وظروفه المادية والتاريخية، وفي كل مرحلة من المراحل التي مر بها عبر التاريخ، ومهما تغيرت الظروف المادية والتاريخية كان عقله قادراً على استيعاب هذه الظروف وخلق تصورات جديدة ملائمة لها وملائمة لنظرته إلى نفسه. ففي المرحلة الزراعية رأى نفسه مكبلاً وخاضعاً لقوى الطبيعة معتمداً عليها اعتماداً يكاد يكون كاملاً، فطور ديانته وعباداته لتكون مناسبة لتلك المرحلة، فعبد القوى الطبيعية. وعندما تحرر من قوى الطبيعة إلى حد ما، مع دخوله في المرحلة العلمية والصناعية، تأقلم مع هذه المرحلة وطور ديانته لتكون مناسبة لتلك المرحلة أيضاً فلم يعد يخاف من قوى الطبيعة وخلق لنفسه أمكنة ومجالاً حيوياً منفصلاً عن تحكم الطبيعة فيه، فأضحى يهتم بما هو أبعد من الطبيعة الأرضية محاولاً اكتشاف الأسرار الكونية ومدى تأثيرها عليه وعلى أرضه، وعندما رأى أنه قد أضر واستنزف الطبيعة، طبيعة الكوكب صار بيئياً وصارت ديانته تميل إلى أن تكون بيئية أيضاً لتصحيح أخطائه وإنقاذ كوكبه، وعندما عرف أن مرضه لا يعزى إلى آلهة شريرة ويمكن أن يكون بسبب جرثومة أو فيروس معين صار يمجد الطب البشري ويمجد الحياة وكل ما يمنع عنه المرض ويبقيه حياً.

 

يكمن "دين الإنسان" في مكانين منفصلين، الأول هو الظروف المادية والاجتماعية المحيطة بالإنسان في كل زمان ومكان والثاني في عقله وذكائه القادرين على التأقلم والتطور مع تلك الظروف بعد أن يمعن النظر فيها.

 

وهذا الدين ليس مجموعة معتقدات ثابتة لا تتغير، إنما مجموعة تصورات كونها الإنسان عن الكون وعن نفسه، واخترع طرق عبادات وتعبيرات مختلفة يعبر فيها عن مكنونات نفسه، الطريف في هذه التصورات أنها تتغير وتتطور ويتجدد التعبير عنها من مرحلة إلى أخرى. فكلما اكتشف الإنسان أو صحح تطوراته القديمة عن الكون وعن نفسه أفرز عقله طريقة تعبيرية جديدة ونمطاً جديداً من السلوك ومن العبارات ومن الحضارة تعبر عما اكتشفه الإنسان وعما عاينه.

 

فمن أجمل ما رأيت في حياتي أن بعض "الهياكل([2])" الرئيسية في عدد كبير من الكنائس الحديثة أنه مقام فوق كرة (حجرية أو رخامية أو معدنية) تمثل الكرة الأرضية. ولو عرفنا أن الكنيسة ذاتها كانت تحارب العلم في القرون الوسطى وحجزت جاليليو واضطهدته لأنه قال بكروية الأرض وبدورانها حول الشمس، لفهمنا مدى التطور الذي حدث في انتقال الإنسان من تعبير إلى آخر.

 

"دين الإنسان" بالمختصر هو نتيجة تفاعل عقله مع عالمه وبما أن هذا العقل تطور على مدى ملايين السنين وسيبقى في حالة تطور فإن دينه أيضاً سيبقى في حالة تطور هو الآخر.

 

 *عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الدماعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

([1]) روجيه كايوا، الإنسان والمقدس، ترجمة سميرة بشار، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص1522.
([2]) الهيكل: هو قدس الأقداس من اليهود، وهو المكان الذي يقف عليه الكاهن لإقامة القداس الإلهي وعادة يكون مواجهاً للناس.

أضف تعليقك