تجاوز المنطق الثقافي للمجتمع المعاصر: السرد العصابي أُنموذجا

تجاوز المنطق الثقافي  للمجتمع المعاصر: السرد العصابي أُنموذجا
الرابط المختصر

يرى التحليل النفسي أن الثقافة هي إخبار عن المستويات النفسية الأعمق ـ إذا ما وظفنا مصطلح يونغ ـ ومن ثم فإنه يقدم أفضل نموذج لفهم كيف يمكن للقوى النفسية الأهم والأكثر سيطرة مثل الحب والكراهية، والمعرفة، والمعتقد، والمعنى، والهوية، والرغبة، والاستمتاع بالفانتازيا -- أن تكون أسبابا وآثارًا للظواهر الاجتماعية والثقافية في الوقت نفسه. والتحليل النفسي حين يفحص الثقافة والمجتمع فإنه يشكل وسيلة فريدة من نوعها ـ بل ويمكن القول إنه لا غنى عنها ـ لفهم جذور مشاكلنا الاجتماعية، فضلا عن فهم وتعزيز الفوائد النفسية والاجتماعية التي تعرضها مختلف التكوينات الاجتماعيةووالظواهر الثقافية.

في سبعينيات القرن العشرين ظهر ما وراء القص، تلك الكتابات الأدبية التي وارتبطت بظواهر مابعد الحداثة. ولم يكن التحليل النفسي بعيدا حتى وإن كنا نعيش فيما بعد الفرويدية ففي تعريف شديد التكثيف لما وراء القص نجد أنه القصّ الذي يجعل من نفسه موضوع حكيه أو كما أطلقت عليه ليندا هتشيون السرد النرجسي, الرواية التي تتضمن تعليقا على سردها وهويتها اللغوية.

يعرف التحليل النفسي النرجسية narcissism،في حدها الأدنى، بوصفها تمحور الذات حول نفسها. هذه الخاصية المُعًرفة للنرجسية وجدت صداها في الانعكاسية الذاتية في أدب ما وراء القص ومهدت الطريق إلى توظيف مصطلح "النرجسية" لوصف هذا النوع بطريقة فضفاضة وازدرائية.

إن دراسة نقدية مثل السرد النرجسي لهتشيون (1984) تثمن الآثار المعرفية والوجودية التي تنشأ من التمحيص،الذي لا هوادة فيه،لمجموع القواعد السردية والاتفاقيات الأدبية في ما وراء القص.وبينما تعرض دراسة هتشيون الرائدة إدراكا واضحا لكل من الدلالات الازدرائية وتضمينات التحليل النفسي لمصطلح "النرجسية"، فإن كتابها" السرديات النرجسية " ينحدر بصرامة لفحص العلاقة المحتملة بين مفهوم التحليل النفسي للنرجسية والنوع الأدبي الما وراء قصصي،تقول هتشيون " في حين أن هذه التداعيات النفسية [من النرجسية] الموجودة هنا، لا مفر منها، فإنها غير ذات صلة لأن النص السردي، وليس المؤلف، هو الذي ينعت بالنرجسية (1984،1). "

تبدو هتشيون غير قادرة على تصور كيف يمكن أن تكون النرجسية أي شيء آخر, سوى وسيلة لتشخيص حالة المؤلف النفسية ؛ وبرفضها هذه المناورة السهلة، تتفادى هتشيون المزالق النظرية التي تصاحب نظريات الأمراض النفسية للمؤلف. إلا أن رفضها يكشف أيضا عن وجود قيود معينة في النطاق النظري : عدم الرغبة في مد العلاقة المحتملة بين متطلبات التحليل النفسي والأدب. ولكن دراسات أخرى حاولت أن تتناول ما تركته هتشيون بواسطة دراسة كيف أن نماذج التحليل النفسي المتنوعة للنرجسية يمكن أن تكون مثمرة في إضاءة بعض ملامح أدب ما وراء القص.

أساس هذه الدراسات يكمن في التأكيد على أن الاقتصاديات الشهوانية[ libidinal economies]. للشخصيات النرجسية, يمكن أن تقدم نماذج لتناول النصوص الما وراء قصية. من خلال تطوير هذه النماذج بالاشتراك مع بعض أدوات علم السرد، وعن طريق كشف التضمينات التي تنشأ عند وضع هذه النماذج جنبا إلى جنب مع حفنة من الأعمال الأمريكية ما وراء القصية المعاصرة، فإن هذه الدراسة لن تفحص الاقتصاديات النصية في نصوص ما وراء القص على ضوء نظريات التحليل النفسي فحسب، ولكنها أيضا ستتناول بعض الاشتغالات المواضيعية لما وراء القص من خلال عدسات التحليل النفسي والسرد في آن واحد. بفعل ذلك، تكون "النرجسية" قد طُورت من مجرد نعت تحقيري، إلى أداة جديدة لدراسة وفهم النصوص ما وراء القصية.

من خلال دراسة مفصلة للصلات بين النرجسية وما وراء القص، فإن هذه المناقشة تحاول أن تحدد الدلالة البالغة لما وراء القص أبعد من حدود نزع الألفة. يمكن تحقيق ذلك بواسطة توضيح كيف يمكن لما وراء القص أن يظهر وكأنه وسيلة ناجعة للنضال الثقافي بحيث تعمل الاستراتيجيات السردية في النصوص ما وراء القصية على تأكيد القيم الثقافية المنشقة. على وجه الخصوص، فإن العناصر العدوانية والمثالية التي تعرف النرجسية في نظرية العلاقات الموضوعية يمكن نقلها إلى تصنيف يعبر بإيجاز عن الدوافع السردية الأساسية التي تميل نصوص ما وراء القص إلى نصبها داخل مصفوفاتها السردية، التي عندما تترابط بوضوح ممثلة بالعدوان والمثالية، فإن استراتيجيات السرد ما وراء القصي تصبح وسائط نقل قوية لتأكيد القيم الثقافية المنشقة التي تجسد أيضا رؤى معرفية عميقة عن مدى كفاية السرد بوصفه وسيلة تمثيلية. هذه الأفكار يمكن أن تقرأ بوساطة نظرية العلاقات الموضوعية للنرجسية لأن النصوص ما وراء القصية تميل في المقام الأول إلى إقامة هياكل السرد التي تتوافق مع النموذج النرجسي للتفسخ والانشقاق.

نماذج النرجسية التي تم التطرق إليها في هذه الدراسات لا تقتصر على فرويد ولاكان. بدلا من ذلك، فإن نظريات العلاقات الموضوعية لميلاني كلاين، هاينز كوهوت، وأوتو كيرنبيرغ تحتل دورًا أكثر مركزية في المخطط المقترح للعلاقة بين ما وراء القص والنرجسية. بروز نظريات العلاقات الموضوعية عن النرجسية في هذه الدراسات يعود لإمكاناتها الهائلة في إلقاء الضوء على عملية التفسخ والانشقاق الذي يخلق بناء حبكة غير نمطية وموضعة عملية القراءة في أعمال ما وراء قصصية كثيرة.

تبدو البارانويا أو جنون العظمة والاضطهاد paranoia والفصام schizophrenia ـ من بين كل أشكال الإضرابات العقلية ـ الأكثر شيوعا في ما وراء القص في أمريكا الشمالية. وكلمة ومفهوم جنون العظمة والاضطهاد من بين أكثر المفاهيم والمصطلحات جدلية في تاريخ التحليل النفسي. وبالرغم من أن كلمة بارانويا تعني اشتقاقيا الجنون أو الاضطراب في العقل، فإن لابلانش وبونتاليس قد عرفاها على أنها " ذهان مزمن يتميز بالضلالة المحبكة والمحكمة التركيب systematized delusion, مع هيمنة الأفكار الإشارية ideas of reference دون ضعف في الذكاء [. . . . . ].  وضع فرويد هلوسات الاضطهاد جنبا إلى جنب مع الهوس الشبقي erotomania، والغيرة الوهامية delusional jealousy, وتوهم العظمة grandeur delusions of ¸ تحت عنوان البارانويا. ومن الضروري التشديد على أنه خلافا للفصام الذي يعتبر التفكك Spaltung أهم أعراضه والذي يتميز بعدم تماسك الأفكار والأعمال والمشاعر، فإن البارانويا لا تكون مصحوبة بأي تدهور عقلي أو فكري. أكثر من ذلك فإن إنتاج الاهتياج البارانووي للإشارات والروابط يؤدي إلى تسارع غير منضبط للذكاء. من وجهة نظر التحليل النفسي فإن هذا النوع من فرط الوعي يؤدي إلى خطاب ذهاني.

في الأدب، وظف الوعي المفرط من قبل الكتاب ـ من بين تقانات أُخر ـ بغرض توصيل النغمة الإلهامية النبويةوالمتبصرة في سردياتهم. ومع ذلك، فإنه ليس من الصعب أن تجد كل أشكال الذهان في العمل نفسه. كما أنها قد تتعايش في الحياة الحقيقية، الحالة التي أشار إليها فرويدوأيمل كرايبيلن بتوظيف مصطلح "ازوار"paraphrenia.

من المألوف أن نجد أصوات سردية بارانووية في ما وراء القص الأمريكي المعاصر، تصف الحبكات والمتحاوريين. ضحايا هذا العدوان الشامل هم عادة الشخصيات التي تواجه التفكك العقلي أو الانحلال. هذه الشخصيات التي تحتل الكون وتتمايز بما اعتبره فريدريك جيمسون في علم النفس المرضي "عصر الرأسمالية الإدماجية ":عصر تسيطر عليه الشركات المتعددة الجنسيات وبيروقراطية الدولة، في ظل غياب البرجوازية الموحدة.

في دراسته لتاريخ السياسة الأميركية، يسوق ريتشارد هوفستاتر بعض الملاحظات ذات الصلة بشأن ما أسماه " أسلوب جنون العظمة ". وفقا لهوفستاتر، فإن هذا الأسلوب يعتقد أن "القوة الدافعة" في التاريخ هي مؤامرة هائلة تحركها قوى شيطانية لسلطة فائقة. يصور المتحدث باسم البارانويا مصير مؤامرته المروع بمصطلحات رؤيوية غامضة، إنه يقامر بولادة وموت عوالم ونظم سياسية بأكملها وقيم إنسانية برمتها. وهذه النظرة التآمرية للتاريخ ليست استثناء في السياسة الأميركية والأدب، ولكنها مبدأ ثابت يعود في جذوره إلى الأدوات الوثنية للخيال البروتستانتي المتطهر.

يتناول الضالعون في الأدب عموما البارانويا وغيرها من أشكال الاضطرابات العقلية في حدود ما يتعلق بالتشخيص والأفكار الأساسية، ونادرا (ما عدا في حالة توماس بينشون) ما يناقشون الحافز البنيوي في السرد. وفقا لهوفستاتر، فإن السمة المميزة للأسلوب البارانووي لا تكمن في النظر إلى المؤامرات بوصفها ظواهر مشتتة،ولكن في كونها تفترض وجهة النظر القائلة بأن مؤامرة واسعة النطاق هي القوة الدافعة للتطور التاريخي. تؤيد اثنتان من روايات ما بعد الحداثة الأمريكية هذا التعريف تأييدا كاملا: "الغداء العاري" للكاتب الأمريكي وليم س. بوروز" و"قوس قزح الجاذبية" لبينشون. لا تقدم هاتان الروايتان مجرد مثال آخر على فصام ما بعد الحداثة: أنهما توظفان الفصام والبارانويا من أجل كشف وتخطي المنطق الثقافي للمجتمع الأمريكي المعاصر.

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014.

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-  فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك