بتهوفن، الموسيقار الذي رأى الصوت يمشي

بتهوفن، الموسيقار الذي رأى الصوت يمشي
الرابط المختصر

القدر: ‘سألت الكاتبة المسرحية البريطانية إنيد باغنولد Enid Bagnold إحدى مناصرات حقوق المرأة عن النصيحة التي تسديها إلى ربة منزل تبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً وقد فقدت أربعة أطفال، ثم وجدت نفسها حاملاً مرة أخرى من زوجها القاسي ومدمن الخمر.
ردت السيدة قائلة: سأحثها على القضاء على الحمل. 
قالت باغنولد: ‘بذلك كُنتِ ستقضين على بتهوفن
تقول مؤلفة كتاب بتهوفن الموسيقار العالمي ‘إدموند موريس′: لم تكن باجنولد صائبة فيما ذكرته من حقائق في تلك الواقعة إذ لم يكن سوى رضيعين متوفيين قبل مجيء بتهوفن، على أية حال كانت تلك أولى ‘ضربات القدر’ التي سقطت مع مطر مساء 17 ـ 12- 1770 فوق ضواحي مدينة بون الألمانية لتعلن ولادة العبقرية الموسيقية’ لودفاج فان بتهوفن’ لكن ليس في ألمانيا، فالنمسا كانت بانتظار احتضان هذه الموهبة.

النمسا

ليست هناك عبقريات فريدة زمانها، العبقرية لا تنهض إلا بوجود عبقريات ثانوية تكون وظيفتها تغذية العبقرية الرئيسية التي شاء ‘القدر’ لها أن تنفرد، حين ترك بيتهوفن مدينة بون قاصداً النمسا وبالتحديد البلاط الملكي فيها أملاً في التخلص من المعاناة التي رافقت عائلته، بدأ هناك المراهق الصغير بإدهاش الطبقة الأرستوقراطية بأدائهِ على البيانو وكان من بين المثنيين عليه العبقرية ‘أماديوس موتزارت’، والأهم من ذلك أن المراهق الألماني قد تلقى دروساً في التوزيع على يد ‘بابا هايدن’ معلم موتزارت وعدوه، وكان للقاءات أنطونيو سالري وبتهوفن تأثير آخر أيضاً ومختلف، من جهة أخرى من كتاب بتهوفن الموسيقار العالمي لإدموند موريس نقرأ هذه الحادثة :
‘وأخيراً ذكر مراسل غير معروف الهوية بمجلة ‘ماجاتسين دير ميوزيك Magazin der Musik لصاحبها كرامر Cramer: إنه ‘ ويقصد بتهوفن المراهق’ يعزف بمهارة وفعالية شديتين ويقرأ فورياً من النوتة بصورة ملائمة إلى حد بعيد، ويستحق هذا العبقري الشاب المساعدة ليتمكن من السفر، ولسوف يصير بالتأكيد أماديوس ‘موتزرات’ ثانياً إذا استمر على هذا النهج نفسه الذي بدأ به ‘
هذا الشهادة منشورة في مجلة مختصة بالموسيقا في ألمانيا عام 1783، وكان هناك أيضاً مؤسسات لنشر الأعمال الموسيقية والتي كان أكبرها على الإطلاق آريتاريا (Artaria ).
الزمن كله إذاً كان يتكلم الموسيقا ويتفاعل معها لذا كان من الطبيعيّ ظهور الذي سيغيّر الموسيقا إلى الأبد.

غيّرها هذا الشيطان

في بلاط ملك النمسا، كانت موهبة ‘اماديوس موزارت’ قد شاخت أخيراً ومعها شاخت تصاميم المعلّم الكبير ‘بابا هايدن’ الموسيقار المتأنق ومُقيّم المواهب في البلاط الملكي، وكانت الموسيقا تحتاج إلى روح جديدة.
جاء الطفل الألماني المتوحش والأكثر قذارةً من بين الموسيقيين في زمانهِ ولم يكن بموهبة ‘موزارت’ على أية حال، ولا مواطنه ‘ميندلسون’ كل الذي حصل هو أن الرعب والوحشية التي اتسمت بها شخصيتهُ كانت تخرج شيئاً فشيئاً في بلاط إمبراطاور النمسا، وامام معلمهِ الخفيّ ‘بابا هايدن’ وروح موزارت التي كانت ما تزال تجول في أروقة القصور.
لعدة عقود واصل تربية طموحهِ حتى وصل اخيراً للحظات الحاسمة التي أعقبت صعوده على دكة قيادة الأوركسترا لقيادة الموسيقيين لتنفيذ سيمفونيته التاسعة حيث همس بلا أدنى مجالٍ للشك أو التردد ‘الآن الموسيقا ستتغير إلى الأبد’.
هناك وبعد الساعات القليلة التي لم يسمع فيها الألماني الأصم شيئاً من موسيقاه كان العالم يتهيأ أخيراً إلى تصنيف جديد في علم الموسيقا؛ ما قبل بتهوفن، ما بعد بتهوفن.
ويقال أن أحد الحضور صرخ بعد انتهاء الألماني من تنفيذ سيمفونيته:
- غيّرها هذا الشيطان الألماني، غيّرها إلى الأبد، وكان يقصد مسير الموسيقا في أوروبا.

متى بدأ التغيير؟

سيكون ضرباً من الغرور لو أن بتهوفن قال جملته تلك دون التاريخ والمعاناة الشخصيين اللذين تحملهما منذ ولادتهِ وحتى وصول حالتهِ الصحية إلى ما آلت إليه والتي يمكن اختصارها بهذا الخطاب المفجع الذي كتبه إلى صديقهِ ‘فرانس فيجلر’ يوم 29 من شهر حزيران ـ يونيو 1801 الذي يقول فيه’:
- طوال الثلاث سنوات الماضية أصبحت حاسة السمع لدي تضعف أكثر فأكثر، لا بد لي من الاعتراف بأنني أعيش حياة تعيسة فعلى مدار عامين على نحو تقريبي توقفت عن حضور أي أنشطة إجتماعية لا لشيء إلا لأنني وجدت أنه من المستحيل إخبار الناس بأنني أصم ‘وفي خطاب آخر إلى أخويه ترتفع نسبة الاعتراف المتوحش’ يا من تظنان أو تقولان إنني حاقد أو عنيد أو مبغض للبشر، كم ظلمتماني كثيراً، إنكما لا تعرفان السر الذي تسبب في جعلي أبدو لكما بهذه الصورة، فطوال ستة أعوام مضت وقد ابتليت بمرض لا أمل من الشفاء منه وازدادت حالتي سوءا بسبب الأطباء الحمقى، وعاماً بعد عام ظللت منخدعاً بآمال تحسن حالتي، كان يستحيل علي أن أقول للناس ‘تحدثوا بصوت أعلى، اصرخوا فأنا أصم، كيف لي الاعتراف بأنني سقيم في الحاسة الوحيدة التي ينبغي أن تكون لدي أكثر من ممتازة مما لدى الاخرين، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس وكدت أكتب نهاية حياتي إلا أن الفن وحدة من منعني من ذلك لقد بدا لي أنه من المستحيل ترك العالم حتى أخرج كل ما بداخلي’.
لم يكن أمام بتهوفن الشاعريّ والحسيّ والمرهف في تلك الفترة غير خيارين:
- إنهاء حياتهِ ببسالةٍ وبطولةٍ شاعرية أو أن يتعاقد مع كتيبة الشيطان التي تلعب الرجبي في رأسهِ ويقوم بتغيير الموسيقا إلى الأبد، واختار الخيار الثاني مجبراً هذه المرة.

حباً بالرب لتتوقفوا

الموسيقار لودفيغ فان بتهوفن قاد العازفين لتأدية رباعياته الغريبة على الذوق العام آنذاك، وإذ انتهى العزف أخيراً وتوقف العازفون،واصل الألماني الأصم تماماً القيادة وسط ضحكات الجمهور من تصرفهِ الغريب، وفي خلفيّة المشهد وقف احد أصدقائهِ ليتفادى الموقف المحرج للموسيقار وذهب إليه بورقة مكتوب عليها:
- مايسترو ، أرجوك أن تتوقف عن القيادة ، وفي البيت سأخبرك بالسبب
لكن العبقري الألماني واصل القيادة يومها حتى بعد أن غادر العازفون والجمهور وصديقهُ ذاك.
كذا صدّق الروائي الكولومبي ‘غابرييل غارسيا ماركيز′ خيالاً ابتدعهُ بنفسهِ في أحد أيام شهر اكتوبر المطير حيث كان الروائي الكولومبي يكتب في الطابق السفلي في غرفتهِ الصغيرة التي سماها ‘لا كويبا دي لا مافيا’ أي كهف المافيا’ التي شيّدها تحديداً ليكتب روايته ‘مائة عام من العزلة’، وكانت زوجتهُ ‘ميرسيدس′ نائمة في الطابق الثاني، وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل في الليلة التي قرر فيها الروائي أن يُنهي حياة العقيد أورليانو بويندا في الرواية، نجح أخيراً بقتله بعد عدة محاولات فاشلة قبل ذلك.
صعد مسرعاً للطابق الثاني حيث زوجته النائمة، وهناك بالقرب من السرير داخل خرس الليل أحست مرسيدس بنشيج زوجها:
- ظللت أبكي عليه لساعتين: يقول ماركيز.
تستطيع أن تصنع المادة الإبداعية وهذا جيد، لكن لن يكون بمقدورك بعد ذلك التحكم بما خلقت.

*كاتب وقاص عربي

المقال اعتمد على كتاب ‘ادموند موريس′ بتهوفن الموسيقار العالمي وكتاب رحلة إلى الجذور سيرة حياة ماركيز لداسو سالديبار.

القدس العربي