العلم

العلم
الرابط المختصر

للفلسفة موقف إيجابي من العلم، كما للعلم موقف إيجابي من الفلسفة، لأنها أم العلوم كلها، فقد ولد العلم في حضن الفلسفة، أو ولدا كلاهما معاً، فإذا أرّخنا أن طاليس الأيوني كان أباً للفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، فهو أبو العلم أيضاً، فقد بحث عن سر الكون في العناصر المكونة له، واكتشف أن الماء هو العنصر الأساسي في الكون.

 

تطورت الفلسفة وتطور العلم من بعدها. فاتجهت الفلسفة للبحث عن القوانين التي تحكم تطور العالم الموضوعي، بينما اتجه العلم إلى البحث عن كل ظاهرة وحدها محاولاً تفسيرها؛ فالفلسفة أعم من العلم، والعلم أكثر دقة وجزئية من الفلسفة، وكلاهما يعتمد العقل نبراساً وهادياً. فلولا دعم الفلسفة للعقل وإعلاء شأنه، لما تمكن هذا العقل الإنساني من التطور باتجاه العلم. كما أن دعوة الفلسفة إلى توسيع المجال للعقل وتركه حراً في أبحاثه وعدم إعلاء سلطة فوق سلطته، فتح للعلم مجالاً واسعاً ليحاكم عقلياً ومنطقياً الظواهر الطبيعية والمسائل التي يعالجها.

 

تعاون الفلسفة والعلم في مجالات عدة وأهمها في نقد أسس العلم ومناهجه، ساعد كلاً من الفلسفة والعلم ليتطورا. وقد أعطى "كانط" إلى الفلسفة مهمة نقد الأسس التي تقوم عليها العلوم، بينما أعطاها "وايتهد" مهمة أخرى وهي تشبيك نتائج العلوم المنفردة للخروج بنظرية فلسفية عامة.

 

فلا يمكن اليوم تصور فلسفة مستقلة تماماً، عن نتائج العلوم، فكثيراً ما عدلت الفلسفة موقفها بعد اكتشاف أو وضع نظرية علمية كبرى، لتتطابق مع نتائج الاكتشافات أو النظرية الجديدة.

 

هناك علاقة تربط العلم بالمجتمع، فالعلم ليس إنتاجاً فردياً، بل إنتاجاً اجتماعياً وشكل للوعي الاجتماعي يمثل نسقاً للتطور التاريخي من المعرفة بشكلها العام إلى معرفة علمية بشكلها الخاص، التي يمكن التحقق من صدقها وتحديدها بدقة. وتكمن قوة المعرفة العلمية في ضرورتها وصدقها الموضوعي وتقييم نتائجها على الوقائع.

 

ويؤثر العلم بدوره تأثيراً عظيماً في تطور المجتمع، لأنه يأتي استجابة لمتطلبات النشاط الإنتاجي للمجتمع، فيصير قوة إنتاجية مباشرة للمجتمع.

 

ليس هناك موقف سلبي للدين باتجاه العلم عامة، إلا أن لديه تحفظات كثيرة، فهو يتعامل مع العلم بطريقة منفعية أدائية، لا يقبل أن يطبق المنهج العلمي على الظواهر الدينية أو المعجزات الروحية وعلى أمور أخرى عديدة، لأن المنهج العلمي يتطلب الموضوعية ويتطلب الدقة والبرهان العقلي ويطلب التصديق أكثر من الطاعة والتسليم.

 

بينما الدين يعتبر حالة انفعالية لا حالة عقلية، والمتدين يستسلم إلى هذه الحالة الانفعالية أولاً، ثم ينتقل إلى عقلنتها بعد ذلك إذا شاء، بعكس العلم الذي يعتبر حالة عقلية لا انفعالية، والعالم يشك في كل ما هو أمامه إلى أن يصل إلى البرهان عليه، ويقطع الشك باليقين.

 

كما أن الدين لا يعترف أن للعلم آثاراً اجتماعية، وأنه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي والفردي. فالمنهج العلمي يزود الإنسان والجماعة بأدوات نظرية للفحص وللبرهنة وللموضوعية، وهذا ما يرفضه الدين الذي يريد أن يكون هو لا غيره، رابطة تجمع أفراد الأمة أو الجماعة وتشكل وعيها الجماعي والديني.

 

والسؤال الممكن طرحه في هذا المقام: هل للعلم تأثير على الأخلاق الفردية والجماعية؟ هل يتدخل العلم في الأخلاق المجتمعية والفردية؟ جواب الفلسفة واضح "أن منْ يهذب الإنسان هو العقل وهو القوة الأهم في الإنسان وهو قادر على تهذيب الجماعة البشرية أيضاً". فللعلم نشاط وقوة تهذيبية على الفرد والمجتمع بحكم سلطته المستمدة من العقل ومن البرهان.

 

يعتبر الدين نفسه القوة التهذيبية الوحيدة أو الأولى في المجتمع وفي حياة الفرد، فيقول إن للشرائع الإلهية قوة العقاب والثواب، والإنسان بدون عقاب لا يسير سيراً حسناً وبدون ثواب يطمح الإنسان إليه، لا يحفز ولا يتشجع لعمل الصالح.

 

لو ذهبنا لفحص الواقع وتساءلنا من هو الأكثر إنسانية وتهذيباً :رجل الدين الذي هو على تماس مباشر مع الدين، أم العالم الذي هو على تماس مباشر مع العلم، لكانت الإجابة: العالم. وإذا تساءلنا من هو أكثر خدمة للإنسان والإنسانية: رجل الدين أم العالم، لكان الجواب الموضوعي هو: العالم أيضاً.

 

المعرفة والعلم قوتان تهذيبيتان تمارسان على النفس البشرية وعلى المجتمع، ومع أن الدين لديه هذه القوة أيضاً، إلا أنها أقل أثراً على المجتمع من العلم، فالعلم يعطي العقل مجالاً لتنظيم العالم وتنظيم ذاته، ويحاول هو أن يقوم بهذا التنظيم، بينما يكتفي الدين بالإرشاد والنصح وتقديم الوعود دون تغيير الواقع.

 *عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك