الخلاص والنجاة

الخلاص والنجاة
الرابط المختصر

 

تاق الإنسان تاريخياً في كل الأزمنة الصعبة والكثيرة التي مرت عليه، إلى ما يسمى بالنجاة والخلاص من ظروفه الصعبة ومن واقعه الأليم، وكثيراً ما سمعت صرخات الفقراء والمرضى والضعفاء والمظلومين والمعاقبين والمتألمين والسجناء والعمال والفلاحين إلى ما ومن يخلصهم من جور الدنيا وصعوبة الحياة وقسوتها.

 

ومن طبيعة الإنسان أن يشخصن هذا الخلاص أو هذه النجاة ويضعها على كاهل "بطل" أو "مخلص" أو "مهدي منتظر" أو "أرضاً جديدة وسماء جديدة" أو "جنة منتظرة" أو "مدينة سماوية" أو "أتوبيا متخيلة"، تساعده على الأمل وتخدر آلامه وتسعفه في تحمل أعباء الحاضر في سبيل مستقبل أفضل.

 

وقد غذت الديانات هذه الآمال، وربما سمعت هذه الصرخات أو هذه الصلوات، وشخصنتها هي أيضاً، ووضعها على كاهل "مخلص" ووعدت بتخليصهم من عذاباتهم ليس في هذه الدنيا إنما في دنيا أخرى بعد الموت. فأخذت الديانات فكرة المخلص القادم أو المهدي المنتظر أو الفردوس المشتهى وبنت لها نظرياتها ووعودها وتأكيدها بأنها موجودة لا محالة، لكن تحقيقها يتطلب زمناً طويلاً أو انتقالاً من هذه الحياة إلى حياة أخرى. وآمن كثير من الناس بهذه الوعود، واعتقدوا اعتقاداً راسخاً بتحقيقها وتحضّروا للاستفادة منها واستعدوا لدفع حيواتهم ثمناً لها.

 

حلمت الديانات القديمة، ديانات ما بين النهرين بإله الخصب "الإله تموز" والإلهة عشتار، وآمنت بأنهما يعودان كل سنة ليموت ويقوم محيياً الطبيعة وحاملاً الخصب والخير معه، ينتظره الفلاحون من صيف إلى آخر ليحيي الطبيعة التي تأتيهم بالحصاد والثمار الكثيرة. وحلمت اليهودية بمسيح منتظر يخلصهم من أعدائهم ويجعلهم أسياداً لشعوب الأرض وقادة لها. جاءت المسيحية بمسيحها أو بمخلصها وسمي "يشوع" أو "عيسو" أي المخلص، إلا أن اليهودية لم تقبل به، وقبلت به المسيحية على أنه مخلص لها من خطيئتها الأصلية ومن خطاياها الأخرى، العدو الأول للإنسان، وقد دفع دمه فداء عن هذه الخطايا بموته على الصليب، إلا أنه قام في اليوم الثالث وسيعود ليحقق هذا الخلاص في آخر الزمان.

 

أمن جزء من الإسلام بعودة المسيح لإقامة الدينونة في اليوم الأخير يوم البعث، والجزء الآخر (الشيعة) فينتظرون ظهور الإمام الغائب، أو المهدي المنتظر الذي سيخلص الأرض من الجور الذي لحق بها ويخلص المسلمين من الظلم وعدم العدالة اللذين وقعا على الأرض ليملأها عدلاً وسلاماً.

 

تحلل الفلسفة هذه المعتقدات، معترفة أولاً بصعوبة الحياة وبآلام الناس وتسمع صرخات الإغاثة الصادرة عنهم، إلا أنها لا تعدهم بوعود منتظرة، بل تحلل الواقع الذي يعيش فيه الإنسان كما هو لا كما هو مأمول. وتقول أن الظلم هو نتيجة لعمل الإنسان ذاته، بحق أخيه الإنسان، فهناك طبقات استغلت طبقات أخرى وأوقعت عليها ظلماً فادحاً، ومنهم العمال والفلاحون، الذين عادة ما استُغلوا لصالح طبقات متنفذة، أما الآلام الجسدية والنفسية فهي ناتجة من طبيعة وحدود الإنسان الجسدية والنفسية أيضاً، فالإنسان كائن هش معرض للأمراض وللآلام الجسدية والنفسية ولن تنتهي هذه الآلام إلا بتقدم الإنسان في مختلف العلوم ومنها الطب والطب النفسي وقبول الإنسان بمحدودية جسده وصعوبة الحياة التي توقع عليه آلاماً صحية.

 

فالإمام والمخلص بالنسبة إلى الفلسفة هو "العقل"، وكلما تقدم وتطور العقل الإنساني، استطاع الإنسان أن يخفف من آلامه ومن صعوبة الحياة واستطاع الانفصال عن الطبيعة ليبني لنفسه عالماً مريحاً دون أن يخرب هذه الطبيعة.

 

كما أن الخلاص أو النجاة في الديانات التوحيدية، هو موضوع فردي أو مقتصر على جماعة بعينها دون غيرها (الفرقة الناجية) المخلصين من المؤمنين، أو الذين آمنوا بتلك الديانة أو المعتقد دون غيره من المعتقدات وهو خلاص أخروي أو فيما بعد الموت، بحيث يكافأون على إخلاصهم وإيمانهم وتضحياتهم توهب لهم السماء أو الجنة أو الفردوس حيث سيعيشون فيها سعداء دون ألم.

 

يحاول العقل الفلسفي أن يبحث في طريقة للخلاص الأرضي الجماعي لكل الناس، فالفلسفة تهتم بالإنسانية بينما يهتم علم النفس مثلاً "بالفرد"، لا تعنى الفلسفة بالخلاص الفردي إلا بقدر ما ينعكس هذا الخلاص على الإنسانية كافة، فإذا بحثت الفلسفة عن منظومة أخلاقية مثلاً، فهي تبحث عن منظومة أخلاقية إنسانية شاملة يستطيع كل البشر التقيد بها وتنتج لهم حسن عيش والتعايش. لذا تبحث الفلسفة في أخلاقية أو شرائعية تقوم على العقل أو العقلانية بحيث يجد فيها البشر ما يقنعهم وما يدفعهم إلى تطبيقها، لأنهم يرون مصلحتهم الجماعية فيها.

 

تعتبر الفلسفة كلمة "خلاص" أو "نجاة" مرادفة لكلمة هروب أو من قبل "تدبير الحال" بينما ترى أن إحدى مهماتها هي "تغيير العالم" كما قال ماركس، أي تغييره إلى عالم أفضل للعيش الإنساني عن طريق فهم هذا العالم أولاً، وفهم إمكانيات العقل البشري ثانياً، ليستطيع هذا العقل اجتراح حلول مناسبة في الوقت المناسب. فإذا كانت السلطة مشكلة إنسانية عامة، وهي كذلك، فعلى الفلسفة البحث عن السبل التي تقيد فيها هذه السلطة، وتراقب ممارستها في سبيل خدمة الإنسان، لا في سبيل التسلط على الإنسان وقمعه، ومن ثم استغلال السلطة لصالح فئة من البشر وليس للصالح العام.

 

تعترف الفلسفة بحاجة الإنسان (الفرد) والجماعة للنجاة وللخلاص، أو لرفع الظلم والآلام عنهم، إلا أنها تحاول إيجاد طرق طبيعية وعقلانية لهذه الحاجة، وترى أن العقل هو الإمام والمخلص القادر على إسعاد الإنسان والمجتمعات البشرية، عندما يقدم حلولاً علمية وحضارية للمشاكل التي يتعرض لها الإنسان. ويشهد التاريخ أن العقل العلمي اجترح حلولاً عديدة لكثير من المشاكل التي تعرض لها الإنسان كالأمراض والآلام، والمشاكل التي تسببها الطبيعة، كالبرد والحر والتنقل والاتصال وأدت الحلول العلمية إلى سهولة نسبية لحياة الإنسان المعاصر، وإلى تنظيم المجتمع المدني تنظيماً أفضل من السابق. وتعتمد الفلسفة الحلول النسبية التي ترافق الإشكاليات النسبية.

 

أما إذا تصور الإنسان مشاكل ذات طبيعة ميتافيزيقية، كمشكلة الحياة بعد الموت والخلود فإن الفلسفة تعجز عن حل هذه المشاكل، لأنها مشاكل كلية مطلقة، فيلجأ الإنسان إلى الدين ليرى فيه خلاصاً وجودياً وإطلاقياً. وهنا يقدم الدين حلوله ووعوده بالسعادة الأبدية أو بالوعد بالجنة أو بالنار للإنسان حسب أفعاله الخيرة أم الشريرة، لتعود الفلسفة وتقول له: إن هذه التصورات المطلقة والميتافيزيقية هي من صنعك أنت، فلو أقنعتك أنك لا تملك حياة إلا هذه الحياة الحاضرة وعلى هذه الأرض لوضعت جهدك في تحسينها وتطويرها وتجميلها إلى الحد الذي يصح فيه العالم مكاناً مناسباً لعيشك ولعيش بقية الناس. ليتدخل الدين ويقول للفلسفة: أنك تفقدين الإنسان أي أمل أخروي أو ميتافيزيقي، وهو ذو نفس خالدة فكيف ستحيا هذه النفس بعد الموت إذاً؟ لن تنتهي هذه المجادلات أو الحوارات وخصوصاً أن كل طرف يتمترس في خندقه مدافعاً عن قناعاته.

 

لتعود فلسفة الأديان وتناقش طبيعة النفس وتميزها عن الروح وهل هذه النفس عاقلة أم لا؟ فمهمة فلسفة الدين هنا بيان قوة الحجة المنطقية عند الطرفين ومن ثم إيجاد أرضية منطقية مشتركة لإكمال الحوار والخروج من دائرة الجدل علّ الحوار يفضي إلى نتيجة متقاربة. وقد خرج "لاهوت التحرير" بنوع من التسوية ما بين الدين والفلسفة، لذا اعتنق هذا اللاهوت الكثيرون من سكان أمريكا الجنوبية المحبين للحياة والغناء والرقص والفنون، لأنه أقرّ بأهمية الحياة الأرضية ومحاولة الحصول على خلاص أرضي أي تحرر من الظلم والتعسف والقمع السلطوي والاستغلال بدون إنكار الخلاص الآخروي.

 

فإذا كان الإنسان "مدعواً" إلى حياة جميلة فيما بعد الموت، فعليه أن يمهد لها في هذه الحياة، ويعيش ما يمكنه من تحقيق كرامته الإنسانية وحريته وحرية بلاده. فلم يقبل هذا اللاهوت باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان ولا باستغلال أو استعمار أو نهب شعب لصالح شعب آخر ولا بسيطرة طبقة دون غيرها على مقدرات البلاد والعباد.

 

وتحدث لاهوت التحرير عن خلاص من خطيئة مؤسساتية وجماعية ترتكبها الدول عندما تضع قوانين جائرة بحق مواطنيها لاستغلالهم أو لقمعهم.

 

هكذا وصل هذا اللاهوت إلى إيجاد مخرج، بحيث تقبل به الفلسفة ويقبل به اللاهوت، فإذا كانت الآخرة مهمة بالنسبة للاهوت، فالحياة الحاضرة مهمة جداً للفلسفة.

أضف تعليقك