الأخلاق

الأخلاق
الرابط المختصر

كانت ومازالت الأخلاق الفردية والمجتمعية هاجساً مهماً بالنسبة للدين من جهة وللفلسفة من جهة أخرى، فكلا الطرفين يودان تنظيم الأخلاق لحسن العيش ولبناء السلام في المجتمع، إلا أن منطلقاتهما مختلفة، فالأول، أي الدين، يرى أن الشرائع السماوية هي المنظمة للأخلاق الفردية والجماعية. بينما ترى الفلسفة أن الأخلاق مبنية على العقل، فالعقل الإنساني على مدى تاريخه أفرز نظماً أخلاقية لتنظم علاقة الفرد بينه وبين نفسه وبينه وبين المجتمع أو الجماعة التي يعيش فيها.

 

تصر الديانات على إعطاء الأخلاق بعداً مقدساً وتحريمياً رادعاً، ففي الوصايا العشر الموصى بها من الله نزلت هذه الروادع: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشتهي امرأة قريبك ...إلخ بينما تقول الفلسفة أن كل هذه الوصايا أتت في شريعة حمورابي السابقة للكتب المقدسة، فالأديان أخذت هذه الشرائع التي في جوهرها عقلية ونسبتها إلى السماء وأعطتها قوة التقديس.

 

السؤال يكمن في ما هي الجهة المخولة التي تسهر على صحة سير الأخلاق أو على الأقل تطبيقها بشكل سليم؟

 

يجيب الدين أنه هو المسؤول أو رجاله بواسطة الوعظ والإرشاد أولاً، ومن ثم التحريم والتحليل ثانياً، وتطبيق الشرائع السماوية على المخالفين ثالثاً. بينما تجيب الفلسفة أن جهة مدنية معينة هي المخولة لسن القوانين وتطبيقها ومسؤولة عن سلامة المجتمع وهي "الدولة" صاحبة الولاية. في الحقيقة ليس هناك خلاف على القوانين الكبرى والمطلقة إلى حد ما، الخلاف ينبت مع الأمور النسبية التي تحتاج إلى تغيير لتواكب العصر أو إلى انفتاح معين بين أديان أو أجناس أو طوائف مختلفة. هنا يتعصب كل دين ويطالب بتطبيق شرائعه على المؤمنين به وعلى كل الناس الذين يعيشون معهم. فإذا كانت أغلبية المؤمنين في دولة معينة من المسلمين فيجب تطبيق شرع الله عليهم وعلى الآخرين، وعلى الدولة تنفيذ ما يسمى "بشرع الله". تتدخل الفلسفة في هذا السجال لتقول أن من طبيعة المجتمعات البشرية أن تكون مجتمعات تعددية ومختلطة بين الديانات والطوائف والجندر (الجنس) والقوميات، لذا وجب وضع قوانين مدنية تشمل الصالح العام لهذه المجتمعات التعددية وتعبّر عنه، بمعنى آخر يجب أن تكون هناك قوانين مدنية تطبق على الجميع بدون استثناء دون المساس بحقوق الأقليات أو الأفراد المختلفين عن الأغلبية، ومن هنا تنبت فكرة علمانية الدولة، أي فصلها بين السياسة والدين، لأنها تتيح لكل الأفراد أن يمارسوا حريتهم في اتباع التشريع الذي يرونه مناسباً دون الاعتداء على الأفراد أو الطوائف الأخرى، غير المتوافقة معهم في الدين أو المذهب, وقد طبق هذا النظام في دول عدة وأثبت جدارته وحافظ على السلام المجتمعي وتماسك المجتمع وعدم اعتداء فئة على فئة.

 

وقف الدين في معظم الأحيان ضد "العلمانية" ناعتاً إياها "بالإلحاد"، والكل يعرف أن الإلحاد شيء والعلمانية شيء آخر، إلا أن الدين خاف من انحسار نفوذه ونفوذ رجاله، كما حصل في أوروبا، فناضلت العلمانية بضراوة إلى أن انتصر المنطق والعقل على التعصب واللاعقل. فازدهرت أوروبا وغيرها في ظل العلمانية، بينما ما زالت الدول الدينية والطائفية تعاني من انقسامات كبيرة في داخل مجتمعها الواحد، وبعض هذه الانقسامات تحول إلى حروب دينية أو طائفية أو سياسية تلبس لبوس الدين وتحارب باسمه.

 

تقف فلسفة الدين موقفاً حكيماً من هذا الجدال لتقول: ليس المهم منبع الأخلاق أو من أين جاءت من السماء أم من الأرض، المهم أن هذه المنظومة الأخلاقية الحاكمة في المجتمعات، تؤدي عملها بطريقة جيدة تضمن السلم الاجتماعي وتضمن حرية الأفراد، فإذا قبل الدين بذلك، أي ضمان حرية الأفراد والجماعات في اختيار ما هو مناسب لها، سيقبل العقل حتماً به أيضاً. لأن الغاية من الأخلاق متحققة. أكيد أن الفلسفة تميل وتؤكد أن تكون الجهة التي تسهر على تطبيق هذه الأخلاق قانونية ومشرعة للواجبات والحقوق بحيث تكون عادلة بين الجميع، ويعاقب المخالف حسب القانون، ويضمن القانون أن تكون مظلة للجميع دون استثناء.

 

وتنادي فلسفة الدين بقبول الحرية الدينية، وممارسة كل جماعة لدينها بالطريقة المناسبة دون اعتداء طائفة على أخرى.

 

كما تلاحظ فلسفة الدين، أن الإنسان في مسيرته الطويلة عبر التاريخ، حاول دائماً ضبط العنف بحيث لا ينتشر بين الجماعات والأفراد دون أن يكون له رادع قوي، لذلك قالت الأديان "لا تقتل" إلا أنها لاحظت أيضاً أنه تم تقنين العنف في الدولة أو السلطة، بحيث لا تتحول الحياة أو العالم إلى غابة يقتل فيها القوي الضعيف.

 

اخترع الدين مرات عديدة توصيفات مختلفة ليبرر الحرب أو القتل حين شرّع "الحرب المقدسة" أو "الجهاد" أو "دحر الكفار" وهنا تتدخل الدولة المدنية لتقول للدين: "إنك لا تستطيع أن تفعل ذلك، ففيها اعتداء واضح على حرية الأفراد والجماعات في اختيار الدين الذي يناسبهم، والأفكار التي تلائمهم دون أن يعتدوا على الآخرين".

 

تحتار فلسفة الدين في الإجابة على السؤال التالي: هل ساهم الدين والمنظومة الأخلاقية التابعة له في ضبط الشر في العالم، وفي رفع إنسانية الإنسان ومن ثم تحليه بأخلاق رفيعة تحقق السلم الاجتماعي؟ أم أن الدين والمنظومة الأخلاقية التابعة له، عمّقت الانقسامات بين البشر، ومن ثم تحولت هذه الانقسامات إلى فرز بين المؤمن وغير المؤمن، وبين من ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك، مما أدى إلى نشوب نزاعات وحروب أسيل فيها دم كثير باسم الله مرات عديدة؟

 

فشل فلسفة الدين في الإجابة على هذا السؤال ناتج عن أن هناك شواهد عديدة للجوانب الإيجابية للدين وشواهد أخرى للجوانب السلبية في تطبيقه. إلا أن الأهمية المستقبلية التي توليها فلسفة الدين إلى الأخلاق الدينية والمدنية هي: هل ستستطيع هاتان المنظومتان رفع الإنسان من حيوانيته إلى إنسانيته؟ وهل ستستطيع هاتان المنظومتان التعاون معاً لوضع منظومة أخلاقية شاملة إنسانية الطابع، بحيث يطبقها كل البشر وتساهم في تسامي الإنسانية وحسن عيشها سوية؟

 

*  عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان

أضف تعليقك