إله الفلاسفة

إله الفلاسفة
الرابط المختصر

يقبل بعض الفلاسفة بوجود "المطلق" دون تعيين ولا تشخيص ولا تجسيد، لأن التعيين والتشخيص والتجسيد يدخلهم في متاهات لا نهاية لها.

 

هناك أمور عديدة يمجُّها الفلاسفة في الدين والإيمان الأعمى، فيتساءلون هل افتراض وجود المطلق يفترض تشخيص هذا المطلق في شخص يتكلم عنه رجال الدين وكأنهم يعرفونه حق المعرفة، وأنه أصدر أوامره لهم أو تحدث إليهم أو هو الذي يدعون إنهم يتحدثون باسمه إلى البشر؟.

 

وهل هذا "المطلق" مهووس بالبشر فرداً فرداً وبما يعملون وما يأكلون ويشربون وما يصلون ويخطئون ويفعلون كل دقيقة بدقيقتها؟ وهل هذا المطلق يملك الفراغ الكافي لينسى كل هذا الكون ونظامه وإدارته وينشغل بتوافه الأمور وبالجزئيات الصغيرة المتغيرة دون الكليات؟.

 

هل هذا العالم على صورة هذا المطلق؟ وهل هو الذي صنع الإنسان على صورته ومثاله أم أن الإنسان هو الذي صنعه على صورته ومثاله؟ وهل هذا المطلق يضع قوانين للكون والطبيعة وللحياة، ثم يكسرها ويخترقها لأجل إحدى الجماعات أو من أجل شخص معين دون غيره؟.

 

شخّص قليل من الفلاسفة "المطلق" في اسم خاص "الله" ومنهم الفيلسوف الفرنسي بسكال الذي أسماه "إله يسوع المسيح"، "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب" ونفر قليل منهم من كان مؤمناً بدين معين تبني إله ذاك الدين.

 

أما الباقون -أي بعض الفلاسفة المؤمنون- فلم يشخصوا المطلق في اسم شخصي حتى لو انتموا إلى دين معين، "فسبينوزا" الفيلسوف اليهودي مثلاً لم يقبل تشخيص الإله بل اعتبره هو واحداً في الكون والكون واحد فيه ومبدأه الشهير يقول ''The all is the one and the one is the all ''، فلماذا وجد هذا التضاد والتنوع في النظرة إلى الإله، عند الفلاسفة ولم يوجد عند غيرهم؟.

-       لأن وجود الله يطرح مشكلة فلسفية كبرى أولاً، فلم يقتنع بعض الفلاسفة بمقولة " الواجب الوجود" بل تساءلوا لماذا يكون "واجباً الوجود" أو من أين جاء أصلاً؟ وهل هو ضروري؟ أو هل مبدأ وجوده يخضع لمبدأ الحتمية والضرورة أم لا؟

-       المشكلة الفلسفية الثانية، التي يطرحها وجود الله إذا كان موجوداً فهل يهتم بالكون والإنسان؟ وهذا السؤال سأله أرسطو لنفسه، فأجاب إذا كان المطلق (الله) خيراً وحقاً وجميلاً فهو كامل، والكامل لا يتطلع إلى الناقص، أي إلى الإنسان وإلى الكون، إنما الناقص هو الذي يتطلع إلى الكامل، فالكامل مكتفٍ بذاته، يتأمل ذاته ليلاً ونهاراً، لا يهتم بالكون الذي نظمه ولا بالإنسان (ولم يخلقه). بل إن الكون والإنسان يتوقان إلى الكمال الذي وصله المطلق.

 

-       كذلك تخلق مشكلة "تشخيص المطلق" مشكلة أخرى فلسفية الطابع هي معرفة المطلق بالكليات لا بالجزئيات، فالكليات هي مجرد (مفاهيم وأفكار أو بنى عقلية أو مثال في عالم المثل) غير مختلطة بالمادة، وهي ثابتة ولا تتغير كما فهمها وشرحها أفلاطون، بينما الجزئيات هي متغيرة ومتحركة فبالتالي هي فاسدة، والمطلق (الله) إذا عرف واهتم بها عليه أن يخضع للتغيير ومن ثم للحركة ومن ثم للفساد. وهذا لا يجوز لأنه لن يكون إلهاً. فمشكلات الكون والإنسان هي مشكلات جزئية لا كلية، إذن يبقى المطلق بعيداً عنها ولا يعرفها، وإذا قلنا لا يعرفها فنحن ننتقص من علمه الكامل ومعرفته المطلقة وهذه أيضاً تدخلنا في متاهة لا نهاية لها، مع محاولة بعض أقطاب المعتزلة والأشاعرة واللاهوت المسيحي حلها دون جدوى!

 

 

-       كما أن تصور الله كروح محض أو مطلق لا جسم له ولا امتداد، يخلق مشكلة من نوع جديد وهي كيف لمادة العالم أن تخرج من اللامادي، وكيف لروح أن يخلق مادة من العدم، فما هو العدم؟ هل هو اللاوجود؟ وهل اللاوجود يمكن أن يكون وجوداً؟ وهل العدم يتحول إلى شيء ما؟ فإذا كان لله جسم أو امتداد، فهو محدد في الزمان والمكان وله حيز جغرافي، فلم يعد مطلقاً.

 

-       وإذا كان العدم ليس عدماً، أي تخرج منه الأشياء فهو ليس عدماً إذاً، ربما كان هيولى (السديم) والهيولى وجود في حالة تشكل وليس لاوجود. فهل أخرج الله المادة (المادة الكونية) من الهيولى؟ فبالتالي فهو ليس خالقاً إنما منظماً كما دعاه أرسطو أي قادر على تحويل الوجود بالقوة Potentiality إلى وجود بالفعل Actuality .

 

 

-       يقول المؤمنون أننا نستطيع أن نستدل من الخلائق أي من الكائنات على وجود خالق لها، فهل الكائنات الفاسدة تدل على وجود الكامل؟ وهل المادة تدل على وجود الروح؟ والله منزه عن المادة الفاسدة، وإذا كان منزهاً، فمن أين جاءت المادة، وكيف خلقت؟

 

حاول الأفلاطونيون الجدد أن يحلوا هذه المسألة بإبعاد الله عن المادة - فالله لم يخلق المادة مباشرة - بل خلق عقلاً فعالاً ومن العقل الفعال صدر العقل المنفعل ثم النفس التي انقسمت إلى عدة نفوس فأوجدت المادة، لكنّ هذا الإبعاد لا يلغي مسؤولية الله عن خلق المادة. وقد تبنى بعض الفلاسفة العرب هذه النظرية ودعوها بنظرية الفيض. فوضع إبن سينا عشرة عقول بين العقل الفعال والمادة.

 

-       وفي نفس السياق تقع مشكلة الخير والشر، فإذا كان الله خيّراً فليس من الطبيعي أن يخلق الشر، فمن أين أتى الشر إلى العالم، وخصوصاً الشر في الطبيعة أو من الطبيعة؟

 

يحاول المؤمنون أن يعزوا الشر إلى الشيطان أو بعضهم يعزونه إلى صنع الإنسان، إلا أن المشكلة تبقى بدون حل، لماذا علينا أن نخترع مصدراً آخر (مثل الشيطان) أو إلهاً آخر للشر، فإذا كان الإنسان ليس مسؤولاً عن الخير في العالم إنما الله، فالإنسان أيضاً ليس مسؤولاً عن الشر في العالم.

 

وكيف يحمّل الإنسان هذه المسؤولية عن الشر وهو كائن ضعيف؟ يجيب المؤمنون بأن الشيطان هو الذي يغويه. إذا كان الشيطان له القدرة على الإغواء فمن خلق الشيطان إذا؟ وما هو الشيطان في حد ذاته؟ ملاك، روح – جسد، أم نار، نور؟

 

-       كما أننا إذا حللنا الأدلة العقلية التي جاء بها أرسطو ليثبت وجود المطلق فهي شبه برهانية وليست برهانية كاملة، فقد دعا الله - المحرك الذي لا يتحرك، فكيف لحركة أن تصدر من محرك لا يتحرك؟.

 

-       إن لكل معلول علة، أو لكل سبب مسبب، ولا نستطيع أن نذهب إلى ما لانهاية، في تسلسل العلل فعلينا أن نجد العلة الأولى، وهو المطلق حسب أرسطو، إن ديفيد هيوم قام بمهاجمة مبدأ السببية والعلة الأولى عند أرسطو، فليس بالضرورة وجود سبب واحد لكل هذه النتائج بل عدة أسباب، كما أننا اعتدنا رؤية التجاور ما بين ظاهرة وسبب، إلا أنهما منفصلان.

 

 

-       لكل نظام منظم، والكون منظم، فالله هو المنظم، والنقد الموجه إلى هذا البرهان أن الكون يمكن أن يكون منظماً ويمكن أن يكون فوضوياً، كما أن النظام يمكن أن يكون في طبيعة المادة ذاتها مثل قانون الجاذبية الموجود في المادة ذاتها، فالمادة تحمل قوانينها في طبيعتها.

 

وقد أضاف توما الإكويني برهانين على هذه البراهين فأصبحت خمسة دون أن يستطيع أن يبرهن عليها برهاناً جازماً.

 

يعي الفلاسفة كل هذه المشكلات الفلسفية وهناك من سعى جاداً لحلها، فمثلاً وضع هيجل الشر داخل الله وليس خارجه، على أنه قال إن الله بتجسده في التاريخ وفي المادة يتخلص من هذا الشر لينطلق من جديد، كروح لهذا العالم أو لهذا الكون، فالفكرة في ذاتها عندما تصبح فكرة لذاتها عليها أن تدخل في جدلية وتتجسد في المادة لتخرج مطهرة لتصبح فكرة من أجل ذاتها. وهيجل لم يحل المشكلة واقعياً، بل أدخلنا في متاهات عديدة فإذا حاول شرح أو نقض الثالوث المسيحي بقوله أن الأب هو الفكرة في ذاتها وعندما تجسد في الابن أصبح الفكرة لذاتها، وتخلصَ من اغترابها عن ذاتها بعد تجسدها بصورة يسوع المسيح، لتخرج من العالم ولتصبح "الروح القدس"، أي الفكرة التي تعيش من أجل ذاتها.

 

فهل ستعاد الدورة مرات عديدة، أو سيبقى هذا الجدل المثالي قائماً؟ وإذا كان الله أي الفكرة في ذاتها، مغترباً عن ذاته، فكيف يكون إلهاً؟ وهل هو بحاجة إلى المادة والتاريخ ليتطهر من الشر أو من اغترابه؟

 

في ضوء ما سبق يظهر أن "المطلق" إله الفلاسفة المختلف عليه، لا يمكن البرهنة على وجوده برهاناً قاطعاً، فلم يقبل الفلاسفة الماركسيون كلمة "المطلق" أصلاً لأنها لفظة غير علمية وغير قابلة للبرهان على وجودها.

يفصّل بعض الفلاسفة فصلاً واضحاً ما بين العقل والوجدان مثل الفيلسوف المؤمن بسكال الذي كان يقول "للقلب أسبابه أيضاً "Le Cœure a ses raisons aussi " فالعقل يبحث عن البرهان، ويبقى يشكك في كل المسلمات، بينما يبحث القلب أو الوجدان عن الاطمئنان، فيقبل ببعض المسلمات والأيمان جزء من المسلمات، فيقوم بالتسليم، إلا أن العقل الفلسفي عقل جامح لا يقبل إلا بالبرهان، ويرفض التسليم والإيمان الساذج.

 

فهل صحيح أن هناك قوتان في الإنسان: العقل والوجدان؟ القلب في قول بسكال يعني الوجدان، ولا يعني فقط العملية البيولوجية أو العصبية، بل كان بسكال يعني النفس الداخلية الوجدانية العاطفية التي تبحث عن الاطمئنان النفسي وتقبل بخضوعها لما هو أقوى منها أو لمن لا تمتلك له تفسيراً. يعلمنا الطب الحديث أن كل الانفعالات تصدر عن الدماغ أو قشرته الخارجية، فهناك تتم العملية العاطفية أو الانفعالية أو الوجدانية، والقلب ما هو إلا مضخة للدم توصل الدم إلى الدماغ وإلى الشبكة المعقدة فيه من أعصاب لتغذيته.

 

وتبع بسكال بعض الفلاسفة في الفصل الواضح ما بين حقل الفلسفة والذي يعنى بالعقل وشكوكه وبراهينه وحقل الدين الذي يعنى بالوجدان والعاطفة والشعور مع الفقير والمحتاج والمسكين والاطمئنان على مستقبل الإنسان بين يدي الله.

 

إلا أن بعض الفلاسفة المشاكسين يعودون إلى القول: إنها محاولة للتلفيق أو لجعل الحياة مقبولة للعيش وليس أكثر، إنما الحقيقة تكمن في وضع الإنسان في مواجهة مع عقله وشكوكه، لا أن يلتف حولها، فالحقيقة صعبة بحد ذاتها والوصول إليها صعب جداً.

 

إيمان بعض الفلاسفة في المطلق ينطلق من عدم قدرتهم على نفي وجوده نفياً تاماً، أو قدرتهم على البرهان على عدم وجوده برهاناً عقلياً متكاملاً. ويقول بعضهم أن البرهان مطلوب للبرهنة على الوجود وليس على عدم الوجود، فغير الموجود أو نفي الوجود لا برهان عليه "What is , is what isn't is not" إلا أن المشكلة تبقى بلا حل؟

 

ولذلك لجأ بعض الفلاسفة إلى توحيد هذا المطلق مع الكل وقالوا "الكل في الواحد، والواحد في الكل"، أي أن المطلق والكون واحد، والكون بكل ما فيه هو الواحد أو المطلق، بينما اعتبره آخرون مصدراً للوجود، فالموجود ليس مصدراً لذاته، فالموجود موجود بغيره ومستمر في هذا التسلسل إلى أن نصل إلى مصدر الوجود كله. أيعقل أن يكون مصدر الوجود هي المادة؟ والمادة لوحدها غير قادرة على تفسير الذكاء. هل هو الهيولى، وما هو الهيولى في النهاية؟ هل هي الحركة؟ والكون في حركة دائمة؟ هل هي الطاقة؟ والكون بحاجة إلى طاقة متجددة؟

 

حتى نظرية آينشتاين E=MC2 الطاقة تساوي الكتلة ضرب السرعة المربعة، هي نظرية هائلة إلا أنها مبنية على ما هو موجود وليس على ما هو غير موجود، صحيح أن الطاقة تتحول إلى مادة وسرعة أو السرعة تتحول إلى مادة وطاقة أو بالعكس، فما هو المصدر الأول؟ لذا ذهب ستيفن هوكنز Steven Hokens([1]) إلى البحث عن البذرة الكونية، وقال أنه يكفي إلكترون واحد منشطر لوجود هذا الكون. هناك من يسأل من أين أتى هذا الإلكترون الواحد، غير المرئي بالعين المجردة؟

 

يجد الفيلسوف المؤمن ذاته في صراع مع مثل هذه النظريات فإذا كان علينا تفسير من أين أتى الإلكترون الواحد، علينا تفسير من أين أتى المطلق أيضاً.

 

فإذا كان الفيزيائيون اليوم يقولون بأن 80% من الطاقة الموجودة في الكون لا نعرف مصدرها، فمن أين أتت تلك الطاقة؟ وهل نحن في سبيلنا لاكتشافها واكتشاف مصدرها حتى ولو بعد قرون؟

([1]) Steven Hokenx, "The Illusion of God"

 

·  عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان

 

أضف تعليقك