«إن كان لا بدّ أن أموت فعليك أن تعيش أنت»
يمتد طويلاً تاريخ كتّاب فلسطين مع الاستشهاد، بدءاً من شاعر العامية نوح إبراهيم صاحب القصيدة الساخرة «دبِّرها يا مستر «دِلْ»/ يمكن على إيدك تِنْحَلْ»، ثم عبد الرحيم محمود صاحب القصيدة الخالدة «سأحمل روحي على راحتي»، وصولاً إلى علي فودة صاحب القصيدة المغنّاة «إني اخترتكَ يا طني حبّاً وطواعيةْ» وبين هؤلاء وبعدهم استشهد كثير من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين اغتيالاً على يد الصهاينة، من غسان كنفاني إلى وائل زعيتر وكمال ناصر ونعيم خضر وماجد أبو شرار وناجي العلي وغيرهم، وتعرض آخرون لمحاولات اغتيال، من بينهم بسام أبو شريف والدكتور أنيس صايغ.
حافل تاريخ فلسطين باستشهاد الكتاب والمثقفين والفنانين، وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يدل على مدى انخراطهم في قضايا شعبهم ومدى إحساس الصهيونية بخطورتهم، حيث لم يدّخر الصهاينة جهدًا في ملاحقتهم عبر العالم وقتْلهم بأقسى وسائل الاغتيال.
السيدة آني كنفاني التي التقيتها في تشرين الثاني/أكتوبر من العام الماضي، أثناء تقديمي لعدد من المحاضرات في لبنان بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان، قالت لي: كان يمكن أن يغتالوا «غسان» بمنتهى السهولة، فعلى الطرف الثاني من البيت توجد أشجار كثيرة، وكان يمكن أن تكفي رصاصة قناص لاغتياله، ولكنهم فجّروا سيارته وجسده، ومعه ابنة أخته لميس، كما لو أنهم يريدون أن يتأكدوا من أن يكون جمْعُ أشلائه مهمة مستحيلة.
ما يدور في غزة اليوم ويصفه العالم «حرب إبادة» للفلسطينيين، وهو يفوق حقيقة هذا الوصف حين يتعلق الأمر بمليونين و 300 ألف إنسان محشورين في مساحة بحجم غزة، فإن ذلك يتجاوز فكرة الإبادة، إنه حالة مزيج ما بين الوحشية والغطرسة والفاشية وكل الصفات البشعة الأخرى التي لا تكفي لوصف كيان كهذا، ومعه أمريكا التي كلما نفد رصاص جيش هذا الكيان ذخّرت له مدافعه وطائرته وبنادقه ليقتل أكثر أمام عالم يرى، دون أن يفعل شيئاً، هذا العدد الهائل من الشهداء، أطفالاً ونساء بالدرجة الأولى، وحجم المفقودين، والواقع المأساوي الذي يعيشه الناس، وكذلك الدمار الهادف إلى محو البشر قبل محو الحجر، ومحو كل ما بنوه على هذه الأرض منذ آلاف السنين.
..وعلى الجانب الثقافي، مقارنة بعدد المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة، ربما يكون عدد الكتاب الفلسطينيين الذين تمّ قتلهم قد تجاوز ربما الآن 50 كاتبة وكاتباً وفنانة وفناناً في مختلف قطاعات الثقافة (كان العدد 43 في بيان وزارة الثقافة الفلسطينية مطلع هذا الشهر) وهو ربما يكون أكبر عدد من الكتاب والفنانين الذين تم اغتيالهم من أي شعب، في فترة كهذه، وحين نضيف إليهم العاملين في مجال الصحافة الذين وصل عددهم إلى 100 صحافي تقريباً (نقابة الصحافيين الفلسطينيين)، هم الذين تمّ اغتيالهم مباشرة وبقرارات عسكرية وسياسية، كما تم قتل أفراد من عائلات 1200 صحافي (المصدر نفسه)، فإن الأمر يبدو أكثر مأساوية.
لقد قتل الصهاينة الجميع؛ من صاحب القصيدة التي يودع فيها الشاعر العالم موصياً هذا العالم بالحب والطائرات الورقية للصغار، إلى عازفة الكمان الصغيرة التي تعِد العالم بالكثير من الجمال، العازفة المغرمة بالرحابنة وفيروز وتشايكوفسكي، إلى الممثل المسرحي الذي يحلم بتقديم مسرحية لوركا «عرس الدم» ومسرحية سعد الله ونّوس «رحلة حنظلة»، إلى المغني الشعبي الذي يحلم بأغان تصبح تراثاً جديداً كما هي «ليا وليا يا ابنيّهْ/ ضاق السجن عليّا.. سدّوا دروب بلادي.. من الميّه للميّه»، إلى رسام يحلم بلوحة «غَزِّيْكا» توضع ذات يوم بجانب رائعة بيكاسو «الجرانيكا»، إلى عشرات المتاحف والمؤسسات والمكتبات ودور العبادة المسيحية والإسلامية التاريخية التي تم تدميرها.
تحضر صورة الشاعر الشهيد رفعت العرعير (44 عاماً)، وهو واحد من الذين كان يمكن أن يغادروا غزة، ولكنهم قرروا العيش بين أبناء شعبهم، كتَب شعراً جميلاً وأنجز وأعدّ أعمالاً رائعة، وتحدث عن موته وعن قراره أن يموت مع شعبه، وكتب بالإنجليزية، مثله مثل عدد من كتاب غزّة، لأنه كان يرى أنه بذلك قادر على أن يوصِل صوت شعبه إلى العالم.
رفعت تنبأ بموته، كما تنبأ الشاعر والروائي الشاب نور الدين حجاج بموته (27 عاماً)، وكما تنبأت الشاعرة والروائية هبة أبو ندى (32 عاماً) بموتها.
كلهم شعراء وكتّاب شباب، قدّموا أعمالاً جميلة متعدّدة، وكلهم كانوا يدركون أنهم لا يملكون الفرصة لأن يعيشوا طويلاً، ولكنهم لم يغادروا.
خمسون كاتباً وفناناً استشهدوا حتى الآن، و 100 صحافي تقريباً، ولكن السؤال الذي يطحن قلوبنا هو: كم كان يمكن أن يكون هناك كتاب وفنانون رائعون بين الأطفال الذين تمّ قتلهم، الأطفال الذين تشكل نسبتهم النسبة الأكبر من بين عشرين ألف شهيد قتلوا حتى الآن؟
وبعـــد:
يكتب رفعت العرعير قصيدة يمكن أن نُطلق عليها «قصيدة الحياة» رغم كل أساها:
إن كان لا بدّ أن أموت
فعليك أن تعيش أنت من أجل أن تحكي قصّتي وتبيع كلَّ أشيائي وتشتري قماشةً وخيوطا (ولتكن بيضاء طويلة) حتى يرى طفلٌ في مكان ما من غزّة السماء في عينيه مُنتظراً أباه الذي رحل في لمح البصر دون أن يُودّع أحداً، ولا حتّى جسده.. ولا حتّى نفسه يرى الطفل الطائرة الورقية، طائرتي التي صنعتَها، تُحلّق عالياً ويظنّ للحظة أن في السماء ملاكاً، يُعيد الحبّ، إن كان لا بدّ أن أموت فليأتِ موتي بالأمل.. فليصبح حكاية.