سر العجوز "أم عطيه" منظفة أدراج البنايات بالزرقاء
منذ ثلاثين عاما وهي تخرج مع بزوغ الفجر من بيتها في أحد المناطق الشعبية جنوب الزرقاء، إلى حيث لا يدري أحد من أبنائها أو أحفادها، ولا حتى زوجها قبل أن يتوفاه الله قبل نحو ربع قرن.
تجدها تتلمس طريقها وفي يدها حقيبتها الرثة التي صاحبتها على مدى تلك الأعوام، وتبدأ رحلتها الطويلة إلى ذلك الحي الراقي شمالي المدينة، والذي يتطلب الوصول إليه ركوب ثلاث وسائط نقل على التوالي.
وقبيل غروب الشمس تكون قد عادت إلى البيت بهيئة هدّها التعب وحقيبة امتلأت بما تيسر من الخبز والخضار، وبعض نقود تخبر الجميع أنها كسبتها من عملها في "تمليس (تدليك) ظهور نساء مريضات، وغسل أطفال وعجائز مقعدات".
هي لا تجد في العمل الشريف، مهما كان نوعه، أي عيب أو مثلبة كما تؤكد، لكنها تؤثر إخفاء مهنتها الحقيقية عن الأبناء والأحفاد حتى لا يستشعروا انتقاصا أو حرجا بين الأقرباء والجيران.
خلال حديثنا معها، فضلت المرأة التي تجاوزت السبعين أن نطلق عليها اسما مستعارا هو "أم عطية"، وأن نحرص قدر الإمكان على عدم انكشاف سر عملها الحالي في مهنة تنظيف أدراج بنايات الميسورين.
وبنبرة تملؤها السكينة راحت أم عطية تروي قصتها مع الجري وراء الرزق قائلة "كان مرض الصرع قد اشتد بزوجي قبل نحو ثلاثين عاما، ما حال دون قدرته على الاستمرار في العمل، ولأن أبناءنا كانوا صغارا حينها، فقد اضطررت إلى أن أشمر عن ساعدي وأبحث عن عمل من أجل أن أعيلهم".
وتابعت "بادئ الأمر عملت في صناعة أكياس الورق التي كان يستخدمها أصحاب محال بيع الخضار قبل أن تحل مكانها الأكياس البلاستيكية، ثم في تنظيف الحبوب كالعدس وغيرها لحساب معلمات مدرسة قرب منزلنا، وكذلك تنقيب الملوخية وحفر الجزر والشمندر واللفت".
ومضت قائلة أنها استمرت في هذه الأعمال إلى أن "أشارت علي أخت لي بالخدمة في بيت أحد البيوت لمرة واحدة في الأسبوع، أقوم خلالها بغسل الملابس وتنظيف البيت لقاء ثلاثة دنانير، وكان وقتها مبلغا كبيرا. وفعلا اتفقت مع صاحبة ذلك البيت وصرت أذهب عندها كل خميس".
سنوات ثقال
تعب العمل وإجهاده اللذين كانت تلقاهما أم عطيه، لم يلبثا أن أضيف إليهما عبء رعاية أحد أبنائها الذي أصيب بمرض التهاب السحايا ومر في رحلة علاج دامت عاما ونصف العام قبل أن يفارق الحياة، وبعده بقليل توفي زوجها أيضا، وكان ذلك قبل 25 عاما.
وإثر رحيل شريك رحلتها في الحياة، اضطرت العجوز إلى تكثيف عملها من أجل تأمين مصاريف البيت، والتي راحت تتزايد مع نمو احتياجات الأبناء ودخولهم إلى المدارس.
وبعد بضع سنين، كانت تقطف أولى ثمرات تعبها مع تزويجها لأحد أبنائها، ورؤية أحفادها منه وهم يخرجون إلى الدنيا، إلا أن الفرحة لم تدم طويلا، فقد أصيب بمرض سرطان القولون، ولم يجد غيرها لتتكفل بالإنفاق على أبنائه الستة وتقف إلى جانبه خلال رحلة العلاج المضنية.
وتقول أم عطيه "قدمت لأبني طلبا في وزارة التنمية الاجتماعية بعدما أصبح غير قادر على العمل، وبحمد الله تقرر صرف راتب شهري له مقداره 180 دينارا، لكن ماذا عساه يفعل بهذا الراتب، فهو لا يكفي للإنفاق على عائلة بحجم عائلته، وأنا الآن أعيله هو وأبناءه".
وتضيف "وزيادة على ذلك، وجدت أنني أصبحت مضطرة إلى الأنفاق على إحدى بناتي التي تزوجت وأنجبت طفلين ثم عادت لتعيش معي في البيت بعدما وقع خلاف بينها وبين زوجها".
وبيت أم عطية هو أصلا ملك مشاع بين عدد من الورثة من ضمنهم زوجها، لكن الشركاء الآخرين يجبرونها على دفع أجرة سكنها فيه مثلها مثل أي مستأجر غريب كما تقول، ودون النظر إلى وضعها ووضع أبنائها وأحفادها.
وبابتسامة لم تفارق شفتيها تؤكد هذه العجوز أنها راضية بما كتب الله لها، وبأنها مهما تضاعفت الأعباء، فلن تنال من عزيمتها، مشيرة في هذا السياق إلى أن حفيدة لها في التوجيهي جاءتها مؤخرا وطلبت منها أن تدفع لها ثمن الدروس الخصوصية، فما كان إلا أن ردت قائلة "يا مرحبابك" كناية عن استجابتها لطلب الحفيدة بسرور ورحابة صدر.
هموم العمل
وعن مهنتها الأخيرة التي استقرت عليها منذ سنوات ولا تزال تخفي حقيقتها عن الأبناء والأحفاد، تقول أم عطية "ها أنذا أشتغل في تنظيف الأدارج، وقد قسمت عملي في الشهر إلى أربعة أماكن مختلفة، وبحيث أقصد أحدها كل أسبوع لأنظف أدراج بنايات فيه".
وتضيف "تعطيني كل شقة مبلغ دينار كل مرة، لكنني لا أنظف مداخل كافة الشقق، حيث أن هناك البعض ممن يطلبون مني عدم شطف مداخلهم، كما أن هناك شققا يقيم أصحابها في الخارج، ومع ذلك أشطفها وأقول دفع بلاء عني، ولله".
وتنظم أم عطيه الأمور المحاسبية مع زبائنها بحسب رغبتهم، قائلة أن منهم من يفضل الدفع مباشرة حال انتهائها من التنظيف، والبعض الآخر يحاسبها شهريا بواقع أربعة دنانير.
وتشير إلى أن "البعض لا يكتفي بالدينار ويزيدني دينارا آخر، وأحيانا أحصل على خمسة دنانير، ولا يخلو الأمر من أن يعتذر بعض أصحاب الشقق عن الدفع طالبين مني الصبر لنهاية الشهر، ويحصل أن يجود علي آخرون بمواد غذائية كالأرز وغيره، والحمد لله على نعم الله وفضله، وعلى هذا الحال وكل حال".
ولا تخفي أم عطية مواجهتها مواقف جارحة من أصحاب شقق يتسمون بسوء الطباع، لكنها تؤكد أنها تستوعبهم "ومهما يقولون لي فانني أسامحهم، وبعضهم بنات في مثل عمر حفيداتي ويتعاملن معي بصيغة الأمر، ولا أملك سوى أن أقول: حاضر، فأنا أسعى وراء لقمة عيشي، وعليّ أن أتحمل".
وتتابع أن "بعضهم يلقي النقود إليّ على عتبة الباب، وغيرهم يخرج صارخا في وجهي لمجرد أنني طرقت باب الشقة لطلب أجرتي أو بعض الماء لشطف الأدراج، وحصل مرة أن خرج إليّ أحد هؤلاء غاضبا لأنني أيقظته من نومه، ولما قلت له أن لي في ذمته أجرة شهرين وهي ثمانية دنانير، اكتفى برمي ثلاثة دنانير على العتبة ثم دخل وأغلق الباب".
ولا يفوت أم عطية ذكر بعض الطرائف التي تعايشها ويبدر بعضها من عجائز يكبرنها في العمر، لكنهن متصابيات وينادينها على الدوام قائلات: "تعالي اشطفي الدرج يا والدتي"، فلا يكون منها إلا أن ترد متهكمة "حاضر يا جدتي".
اسعوا في مناكبها
بعد انتهاء يوم عملها المضني، تقول العجوز "أعود إلى بيتي بعد أن أتبضع لأحفادي ما يطلبون من طعام، والحمد لله، فقد قال رب العزة: واسعوا في مناكبها وكلوا من رزقه".
وتضيف وهي تشير إلى حقيبتها الملأى "في طريق عودتي أعرج على المخبز وأتناول حاجتي من الخبز، وأحيانا أشتري الحمص والفلافل من بعض المطاعم، والتي أصبحت تربطني علاقة مودة مع بعض أصحابها الذين لم يعودوا يأخذون مني ثمن ما أشتريه بعد أن عرفوا حكايتي".
وتعتبر أم عطية عملها في الأماكن الراقية "مكسبا"، حيث يحدث أن تعثر على أشياء ألقاها أصحابها بجانب الحاويات، فتلتقطها باعتبارها "عطية المولى". وتورد في هذا السياق قصة أحد أحفادها الذي طلب منها ثمن بدلة زي مدرسي "وسبحان الله، مررت بحاوية فاذا ببدلتين على الأرض، ولما جئته بهما وارتداهما تبين أنهما على مقاسه بالضبط".
ومع تقدمها في العمر، باتت هذه العجوز تشكو من ألم في قدميها، لكنها تقول أنه لا يعيق عملها كثيرا، وإن كانت تؤكد أن عملها لا يخلو من خطر تعرضها لحوادث وإصابات، كما حصل ذات مرة عندما زلقت قدمها أثناء كانت تقوم بتنظيف أدراج إحدى البنايات، ما تسبب لها بجرح تطلبت خياطته 25 غرزة كما تقول.
وتوضح أم عطية أن "فاعل تواجد في المستشفى بالصدفة يومها كان قد تكفل بسداد فاتورة علاجها"، مشيرة إلى أن أصحاب الشقق لا يرون أنفسهم مجبرين على تحمل تكاليف أية إصابات قد تتعرض لها، كما أن قانون العمل لا يشمل من هم في مهنتها.
وكما تخبرنا هذه المرأة التي حفر الزمان والتعب أخاديد في محياها، فكل ما تتمناه هو "أن أبقى مستورة ما بقي لي من عمر".
إستمع الآن