الافلات من العقاب في الأردن: ثقافة تتجذر

الافلات من العقاب في الأردن: ثقافة تتجذر
الرابط المختصر

أعلنت الحكومة الأردنية خلال السنوات الأخيرة التي واكبت تحولات الربيع العربي عن فتح تحقيقات في العديد من الأحداث التي اتهم رجال أمن بارتكاب انتهاكات خلالها بحق نشطاء وصحفيين، لكن معظم هذه التحقيقات لم تبلث إن وئدت!.

وتلجأ الحكومة عادة إلى الاعلان عن تلك التحقيقات كاجراء غايته امتصاص الاحتقان وتهدئة الرأي العام، كما يؤكد مراقبون.

لكن هيكلية لجان التحقيق التي تتشكل والأنظمة التي تحكم مسار التحقيقات، تكرس على الدوام واقع أن المتهم هو من يحقق مع نفسه، الأمر الذي يجعل افلاته من العقاب نتيجة حتمية في معظم الحالات.

وفي الأردن يقوم الادعاء الخاص بمديرية الأمن العام وقضاة تحقيق المديرية بمقاضاة زملائهم الضباط والافراد جراء إهمال أداء الواجب، وإساءة استخدام السلطة، وإهانة السجناء، والتعذيب.

وبحسب ما تؤكده منظمات حقوقية دولية، فإن عدم شفافية التحقيقات في ظل هذه المنظومة القضائية تؤدي إلى الحفاظ على هامش واسع يمكن للمتهمين ضمنه الإفلات من العقاب.

ولا يقتصر الأمر على رجال الأمن الذين يرتكبون الانتهاكات ضد الناشطين خلال الاحتجاجات ذات الطابع السياسي، بل يشمل أيضاً العاملين منهم في مراكز الشرطة والسجون، والذين نادراً ما يدانون في جرائم سوء المعاملة والتعذيب.

ويؤدي غياب التعريف الواضح لتجريم التعذيب في القوانين الأردنية إلى جانب تعذر اثبات الحالات إلى نجاة حراس السجون واداراتها بأفعالهم التي يقترفونها ضد المحتجزين.

ويحجم المحتجزون والسجناء عادة عن الشكوى خشية تعرضهم لاجراءات انتقامية، ومع ذلك، يقول المركز الوطني لحقوق الانسان انه تلقى عام 2011 نحو 75 شكوى من سوء المعاملة والتعذيب في مراكز الشرطة.

لكن العديد من الشكاوى يتم اغلاق التحقيق فيها بسبب عدم كفاية الأدلة، أو تنتهي باجراءات تأديبية بحق المتهمين، وحتى من يحالون إلى محكمة الشرطة على قلة أعدادهم فإنهم يواجهون أحكاماً مخففة، كما يذكر تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش.

الدوار الرابع

تشكل ما تعرف بأحداث الدوار الرابع في آذار 2012، والتي قمع الأمن خلالها محتجين تجمعوا أمام مقر الحكومة للمطالبة بالافراج عن نشطاء محتجزين، نموذجاً للحالات التي تعهدت الحكومة بالتحقيق فيها، ودون أن يسفر ذلك عن قصاص عادل.

وخلال تلك الأحداث اعتقلت قوات الأمن عدداً من المحتجين ثم عادت وأفرجت عن بعضهم لاحقاً.

المحتجون الذين أفرج عنهم أفادوا بتعرضهم للتعذيب أثناء عملية الاعتقال وداخل المراكز الأمنية.

وعلى الأثر باشرت عدّة منظمات تعنى بحقوق الانسان التحقيق في هذه الافادات، ومن بينها منظمة هيومن رايتس ووتش التي دعت الى تحقيق مستقل ونزيه وعلني في الاعتداءات والانتهاكات التي اتهم رجال الامن بارتكابها.

وطالبت المنظمة بضمان محاسبة أي مسؤول أمن يثبت تواطؤه الى جانب وقفه عن العمل أثناء التحقيق معه في حال كانت هناك أدلة قابلة للتصديق بأنه ارتكب أعمال تعذيب أو سوء معاملة.

الناشط عبدالله محادين كان من بين من افادوا بتعرضهم للتعذيب، وهو يقول انه اقام مع عدد ممن كانوا معه دعوى قضائية ضد ثلاثة ضباط هم مدير الامن العام حينها ومدير شرطة أقليم العاصمة و العقيد الذي جرت عمليات التعذيب تحت أمره.

ويضيف محادين أن بينات الدعوى ضمت تسجيلات فيديو لعملية الاعتقال وشهادات لناشطين أمضوا بعضاً من ليلتهم في الحجز، كما أجري طابور تشخيص للضباط تم خلاله التعرف على عدد من الذين شاركوا في التعذيب.

لكن هذا الناشط يقول انه "بعد أسابيع واثناء مراجعتي محكمة الشرطة تم تبيلغي بأن القضية قد أغلقت أو ما وصف بمنع المحاكمة بسبب عدم كفاية الادلة".

ساحة النخيل

ولم يكن النشطاء السياسيون وحدهم من تعرضوا الى الانتهاكات على يد قوات الامن خلال التظاهرات والاحتجاجات، بل شمل ذلك الصحفيين الذين يغطونها.

وبينما تبدو الاعتداءات على الصحفيين فردية ومعزولة في معظم الاحيان، الا انها اتخذت عام 2011 طابعا جماعيا بدا فيه ان رجال الصحافة كانوا مستهدفين من قبل الامن وبنية مبيتة كما يقولون.

ففي تموز من ذلك العام، توجّه الصحفيون الى ما يعرف بساحة النخيل في وسط العاصمة عمان لتغطية تظاهرة احتجاجية كان يتوقع لها ان تكون ضخمة.

وقد ارتدوا خلال ذلك سترات مميزة اتفق عليها بين نقابة الصحافيين ومركز حماية وحرية الصحافيين، وبعلم الامن العام، وذلك لضمان عدم الاعتداء عليهم من رجال الشرطة الذين طالما تذرعوا بانهم لا يستهدفونهم وان ما يحصل هو بسبب الخلط بينهم وبين المتظاهرين.

وبعد وصول المتظاهرين الى ساحة النخيل قمعتهم قوات الامن بعنف، ولم يسلم من ذلك الصحفيون الذين اصيبب عدد منهم ودون ان تشفع لهم ستراتهم.

وعقب الاعتداء على الصحفيين توجه وفد حكومي الى نقابتهم حاملاً اعتذاراً ووعداً بتشكيل لجنة تحقيق.

ولم تلبث أن أوصت اللجنة في تقريرها مدير الأمن العام بأن يحيل الى المحاكمة ضباط وافراد الشرطة الذين يثبت تورطهم في ضرب المعتصمين والصحفيين أو تقصيرهم أو مخالفتهم للأوامر والتعليمات.

ويقول الرئيس التنفيذي لمركز حماية وحرية الصحفيين نضال منصور أن توصيات قد دفنت، ولم يتم متابعتها وكذلك لم يتعرض المتهمون لاية مساءلة قانونية.

ويضيف منصور بأن الإفلات من العقاب وعدم إنصاف الضحايا من الصحفيين عن طريق التعويض المادي والمعنوي وملاحقة المعتدين في تلك الحادثة زاد من حجم الاعتداء على الصحفيين وشجّع على استمرار هذا النهج.

ومن جهته، يقول الصحفي رائد العورتاني وهو أحد المصابين في تلك الحادثة أن جهاز الامن العام عوّضه عن ضرره و قدّم له اعتذاراً، لكنّه يعتبر أن الاعتذار لا يكفي ويجب أن ينال المخطئ عقابه.

ملعب القويسمة

ولا تسلم ساحات الرياضة كملاعب كرة القدم من انتهاكات رجال الأمن ومن التحقيقات الاستعراضية التي تزيد المرارة في نفوس الضحايا ودون ان تقتص لهم.

ولا تزال ذاكرة الكثيرين حية بالمشاهد التي بثتها قنوات التلفزة العالمية لحادثة ملعب القويسمة الشهيرة عام 2010، والتي اصيب خلالها العشرات من مشجعي فريق الوحدات بعد انتهاء مباراة أقيمت بينه وفريق الفيصلي.

عقب صافرة النهاية في المباراة التي فاز فيها الوحدات، انهالت هراوات رجال الأمن والزجاجات والحجارة من فوق الأسوار على مشجعي هذا الفريق، ففر قسم منهم ناحية سياج المدرج لكنه لم يلبث ان انهار بهم.

خلّفت الحادثة ما يزيد على 170 مصابا من المشجعين، و25 من الدرك بحسب ما اعلنته قيادة هذا الجهاز الامني، واعلنت الحكومة بعدها تشكيل لجنة تحقيق.

يقول خليل أبو جميل، وهو أحد الذين اصيبوا يومها "بدلاً من ان يخرج رجال الدرك الجمهور من المدرج قاموا بالاعتداء عليهم وحصروهم في جهة السياج الامر الذي أدى الى سقوطه بسبب ضغط الجمهور عليه".

ومن جهته، قال النائب طارق خوري الذي كان رئيسا لنادي الوحدات حينها ان عدداً من الاجراءات العقابية تم اتخاذها من قبل الدرك بحق بعض مرتباته، إلا أن هذه الاجراءات لم تضمن سوى جزء من حق الجمهور.

نظرة قانونية

وكما يؤكد استاذ القانون الدولي محمد الموسى، فان من شأن الإفلات من العقاب ان يقصي الكثير من الحقوق، والواجبات الأساسية التي يجب أن تضمن لكل فرد فاللاعقاب يشمل مجالات مضاعفة، معنوية، سياسية، قانونية.

ويعتبر الموسى الإفلات من العقاب انتهاكا مضاعفا لحقوق الإنسان، من حيث انه يحرم الضحايا من الحق في إقرار الحقيقة والاعتراف بها، والحق في إقرار العدالة، والحق في الإنصاف الفعال والتعويض.

كما انه يطيل أمد الأذى الأصلي الذي لحق بالضحية من خلال السعي لإنكار وقوعه، وفي هذا انتهاك آخر لكرامة الضحية وإنسانيته على حد تعبير الموسى.

ويشير استاذ القانون الدولي الى أن المساءلة تعطي إحساسا بالأمان للضحايا، وتوجه تحذيرا لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكات في المستقبل، وتعطي قدرا من الإنصاف لمعاناة الضحايا، وتساعد على كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية (أن يقتص الناس لأنفسهم بأنفسهم)، كما تتيح فرصة هامة لتوطيد مصداقية النظام القضائي.

ويجدر بالذكر ان ميثاق الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية والمذلة (المهينة)، أو العقاب، يشترط تحقيقا سريعا وحياديا أينما كان هناك أساس معقول للاعتقاد بوجود فعل أو تعذيب.

كما أن الميثاق يوضح أن هذا الواجب لا يعتمد على شكوى مقدمة رسميا من قبل الضحية، و أنه يشترط أن للضحايا الحق بالشكوى، وأن تفحص قضاياهم بسرية وحيادية.

أعد التقرير