معشوقة الجنّ والإنس

أميرة الجمل
الرابط المختصر

 

 أميرة الجمل أول شخص في الأردن ومن الأوائل في الدول العربية تؤسس جمعية تضطلع بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة النفسية في وقت لم يكن فيه وما يزال أحد يجرؤ على الإفصاح عن مرضه أو إعاقته النفسية، حيث قادت بدعم من منظمة الصحة العالمية جمعية “خطوتنا” التي من خلالها شاركت بفاعلية في إخراج أول استراتيجية وطنية يعرفها الأردن للصحة النفسيةمنذ 11 عاما.

 أميرة التي من خلالها عام 2010 تعرفت على عالم الإعاقة النفسية وقمت من خلال برنامج تعزيز منظمات المجتمع المدني الذي كانت تنفذه منظمة “FHI” الدولية؛ بتدريب أول فوج من الأشخاص الذين لديهم إعاقة نفسية على حقوق الإنسان وآليات المدافعة وكسب التأييد، حيث توزعت الإعاقات ما بين الاكتئاب والفصام العقلي والاكتئاب ثنائي القطب وغيرها، لأتفاجأ وأتشرف بالتعرف عن قرب على مجموعة رائعة من الزميلات والزملاء الذين أرهبهم المجتمع ووصمهم فلاذوا بالفرار مختبئين من ظلمه وجوره وجهالة أفراده.. فإذا بهم مقبلين على الحياة يبحثون عن مساحة أمان يلجون إليها ليفصحوا عن هويتهم ويتحدثوا عن تجاربهم بصوت مسموع لأول مرة بثقة وصدق وعمق.

 أميرة الجمل التي أمضت أكثر من 15 عاماً من النشاط والمدافعة ورفع الوعي بقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة النفسية ومثلتهم مؤخراً ولأول مرة في مجلس أمناء المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، أميرة المخلصة في عملها والمتفانية في الدفاع عن قضيتها، أميرة التي باتت اسماً معروفاً وموثوقاً لدى عدد من الجهات الدولية المرموقة.. كانت ضحية لحملة تنمر بغيضة من زمرة جهلة خلعوا عقولهم وآثروا السير على ظهر البسيطة حفاة.

 حلّت أميرة الجمل ضيفةً على برنامج “بين قوسين” الذي تبثه قناة رؤيا الفضائية، وكان الغرض من الاستضافة تسليط الضوء على الأمراض والإعاقة النفسية من جوانب متعددة، أبرزها كان طرح تجربة حية توفرت لدى أميرة شجاعة عزّ نظيرها لتقصها على الملأ أمام الكاميرات، ولأن الإعلام يبحث دائماً عن العناوين الأكثر إثارة وجذباً للمشاهدات، فقد تم اجتزاء العبارة الآتية من حديث أميرة الطويل ووضعت عنواناً للحلقة تظهر في “البرومو” بشكل متكرر: “ الشيخ حكالي إني معشوقة من الجان .. وصرت أحس إنه في حدا معي في البيت!”.

 هذه العبارة جاءت على لسان أميرة التي عاشت وعايشت وما تزال الإعاقة النفسية أثناء سردها لتجربتها المؤلمة مع اكتئاب ما بعد الولادة الذي كان شديداً عليها وداهمها وهي في سن صغيرة أُمّاً انتظرت وليدها الأول بفارغ الصبر، فعوضاً عن فرحتها بضمّه إلى صدرها، وجدت نفسها غارقةً في حزن وعزلة وعزوف عن كل شيء. كان ذلك في وقت لم يكن فيه مصطلح “الصحة النفسية” متداولاً أصلاً في الأردن، إذ كان كل ما يعرفه الناس –ويبدو أن جلهم ما يزال كذلك- عن المرض والإعاقة النفسية هو “مستشفى الفحيص ومجنون القرية في المسلسلات والأفلام العربية الهابطة..”، فلم تجد الأسرة في حينها وفي حدود ما عرفته آنذاك أمامها من سبيل، إلا بأخذ أميرة إلى الدجّالين من مدّعي “إخراج الجان والعلاج بالقرآن”، فقال لها الدجال الذي أُخِذَت إليه هذه العبارة التي اجتزئت من قصتها وعنونت بها الحلقة “معشوقة من الجان..”، لتسترسل أميرة بعد أن روت هذه القصة شارحةً كيف أنها اكتشفت أن هذه خرافة وأن العلاج النفسي هو الطريق الصحيح وكيف أنها توجهت إليه واستفادت منه وأصبحت ناشطةً لها بصمات في مجال الإعاقة.. محذّرةً غيرها من أن يقعوا في ما وقعت فيه أسرتها منذ سنوات طويلة، داعيةً الجميع إلى إدراك أهمية الصحة النفسية وضرورتها.

 ولمّا كانت عصبة من قطعان منصات التواصل الاجتماعي لا يقرؤون وإذا قرأوا لا يفقهون وإذا فقهوا لا يعقلون وإذا عقلوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يتبصرون.. فقد اكتفى معظمهم بمشاهدة “البرومو” وقراءة عنوان الحلقة لينهالوا عليها بوابل قذر من التعليقات التي تعكس وضاعة أخلاقهم ودناءتها، مع التنويه إلى وجود تعليقات قليلة تنبئ عن رفعة أخلاق من نشروها واتساع أفقهم، إلا أنها بكل أسف تاهت وانغمرت حيث جرفها سيل البذاءات الذي تنوعت عباراته بين ساخر متنمر وشاتم متنمر وعنصري متنمر واستئصالي متنمر.. ثم تحولت صفحة الفيسبوك التي تم تحميل الحلقة عليها إلى ما يشبه حلبة سباق موبوءة يتنافس فيها المنحطّ مع الأحطّ. فترى وضيع كتب: “على شو الجن بده يعشقك؟”، لينبري غيور أبى إلا أن يثبت أنه أكثر وضاعةً من ذلك فيكتب: “هذا الجن أكيد أعمى”.. كان لافتاً للنظر التناقض الفجّ الذي يعكس جهلاً فطرياً متأصلاً لدى معظم المتنمرين، إذ في منشور واحد تجد أحدهم يسخر ويتنمر ثم يختم وصلة بذائته بدعوة إلى “ذكر الله وقراءة القرآن وعدم التصديق بالجان”!

 تدني المستوى الأخلاقي ليس القاسم المشترك الوحيد بين هؤلاء العصبجية، بل إن جهلهم بتراثهم الذي يحتجون به على عبارة أميرة المجتزأة واستنكارهم وإنكارهم لموضوع “الجنّ وأثره على البشر..”، يبدو كلمة السر الجامعة بينهم التي تؤكد أن العلم والمعرفة لا يشتريهما مال ولا يحوزهما جهّال، فما عسى هؤلاء فاعلين إذا علموا أن البخاري ومسلم رويا حديثاً صححه الألباني –إن كانوا يعرفون هذه الأسماء أصلا- يروي تفصيلاً كيف أن الرسول عليه السلام سُحِرَ له من رجل اسمه “لبيد بن الأعصم”، وأن هذا السحر كان له تأثير على النبي؟ ولأن القوم يصعب عليهم فهم ما نقوله هنا، فإننا نحيلهم إلى هذا الرابط ليستعينوا بمن يشرحه لهم علّهم يفقهون: https://www.alalbany.org/fatwa-6

 القصد أن زعران المتنمرين حتى في تنمرهم ينقلبون إلى نكتة ومادة لا نهائية للسخرية، ثم إنك لتتعجب كيف يمكن لمثل هؤلاء أن يناموا ويستيقظوا وينظروا في المرآة دون أن يروا سوآتهم المعرفية والسلوكية والأهم الأخلاقية؟

 أميرة الجمل معشوقة الجنّ والأنس وكل ساعي إلى التغيير والتبصير ومناهضة التمييز والإقصاء.. شأنها شأن غيرها من المختلفين في مجتمع آثر الكفر بالاختلاف والتنوع وآمن بالتحجّر والتقوقع، عابد للتقاليد عاشق لاقتفاء الأثر والتقليد.. تنطبق عليها المقولة الإنجيلية: “لا كرامة لنبي في قومه”، ومقولة الإمام الشافعي “ما جادلت عالماً إلا غلبته وما جادلني جاهل إلا غلبني”، فلا بأس يا صديقتي، وامتثلي قول شاعر العرب المتنبي حيث ألجم أعدائه الصغار بترفّع الكبار قائلاً لهم: “فإن أتتك مذمتي من ناقصٍ، فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ”، فلا تأسي على القوم الناقصين.