ولادة الممشى والمُشاة

الرابط المختصر

حين تمشي لا تكون وحدك،تترك لمخيالك العنان وأنت تدربه على الافتتان بما حولك، الطريق نقسها التي تقطعها هي جزء منك ترافقك، تحاورك وتطرح أسئلتها الحنونة عليك بكل براءة: لماذا أنت هنا؟.
وفي المشي والممشى ثمة فلسفة تصنعها لنفسك، وتدرك معها وبها أن ثمة عالم آخر يحوطك، يرافقك ويرفق بك، هنا في الممشى ثمة قشرة تغلف روحك لا تريد كسرها أو حتى خدشها، ولا ترغب بمرافقة أحد، أو محاورة أحد، أنت والطريق وما يحوطك من تفاصيل، هذا كل ما تريده من ممشاك، تقتنص وحدتك وحدك، تغترب، تهرب من هيمنة المحيط، وتترك لمخيالك فقط صناعة عالمك، هنا يبدو الصمت والإغراق في الذات نوع من التبتل الجوَّاني لا يقل أمنا عن الامن الذي تلقاه في صلاتك.
أذكر جيدا وأنا أستعيد سنوات الماضي البعيد حين كنا في المدرسة كانت مهمتنا الوحيدة المشي، ولم نكن نعرف القراءة في بيوتنا، فتلك البيوت لم تكن تسمح لنا بالقراءة لضيقها وسط غرفة أو غرفتين بالكاد تؤوي العائلة الممتدة ، ولذلك كنا نحمل كتبنا ونذهب للقراءة في الخلاء، نمشي بصحبة الكتاب المدرسي ونذرع الطريق جيئة وذهابا لساعات، نحاول الحفظ والتعلم، ولا بأس إن قطعنا الممشى وجلسنا نتحدث ونتبادل النكات، وكأننا نستلهم مبدأ الجاحظ العظيم في المناقلة بين الجد والهزل.
في الممشى ولدت حكايات أطول من خطوط الطول والعرض، وفي الخلاء المحيط بالمخيم كان العشرات يلتقون بالصدفة يلقون التحية، وربما يتوقفون للتعارف، وتبادل الردود والأسئلة، وهناك كانت تنشأ صداقات صنعتها الصدفة في المماشي، وكتبا قرئت على مهل، وقصائد شعر كانت تحاور ذاك الفضاء المنفتح على كل نوافذ الحياة.
لم أتخلى عن عادة المشي إلا بعد أن كلَّت قدماي ولم تعودا كعهدي بهما، خانتاني بصمت وكأنهما تحترمان قدرتي على حبهما، وفي قلة قليلة من الهوس بالمغامرة اخونهما وأمشي، لكنني هذه المرة أنا من يحملهما.
أستذكر قبل أكثر من اربعين عاما خلت كنا والأصدقاء نتمرد على الدرس المدرسي، نذهب للخلاء وللمشي نحمل دواوين شعر وروايات ونقرأها في الممشى، لم تكن أيادينا تكل من حمل الكتاب، ولم نكن نتعب من المشي، وهكذا كان المتنبي، والمعلقات، وشعراء المقاومة من منشورات دار العودة رفاقا دائمين يتمشون معنا وكأننا أصدقاء لا نفترق.
صار لنا أصدقاء صنعهم الممشى، لكنهم كانوا أكبر منا سنا،كان بعضهم طلبة في الجامعة الأردنية، وبعضهم في السنة الجامعية الرابعة، كانوا هم أيضا يقاسموننا الممشى للقراءة الأكاديمية، تعمقت أواصر الصداقة بيننا وصرنا نستظهر معهم ما حفظوه من مقرراتهم الجامعية لإجتياز اختبارات الجامعة.
وفي الممشى وعلى صغر العمر وبراءته كنا نمتهن اللغو في السياسة بالرغم من عدم إدراكنا لما يحيط بنا، وكنا نؤمن تماما بان الممشى هو المكان الوحيد الأكثر أمنا وأمانا للثرثرة السياسية والفصائلية، ففيه لن تنهرك امك عن مثل هذه الأحاديث الشيطانية التي لا تطعم خبزا، ولن تخاف من متلصص يتسمع عليك فيشي بك، فقد كنا نظن وقتها أن صفيحة الزينكو التي تسكنها تعمل مخبرا،ولذلك كان الممشى هو الأكثر أمانا لتشتم في فضائه أكاذيب السياسي البغيض.
وفي الممشى المتناهي تمسك فيه حريتك، تمارسها كيفما اتفق لك، وحين كنا نشعر بالضيق كنا نمارس بالفطرة حفلة صراخ جماعي، نبدأ بالصراخ بأعلى صوت نملكه ونقدر عليه، ونبقى نصرخ حتى تتقطع حبالنا الصوتية ويكاد صوتنا يتلاشى، وبعدها نشعر براحة داخلية وكأننا خرجنا للتو من عيادة الأمراض النفسية.
لقد كان الممشى ولم يزل الوحي الأكثر صلابة، وحضورا وعنفوانا وتأثيرا في مسيرة وسيرة جيل من الحفاة أدركوا مبكرا جدا أنهم ولدوا بولادة الممشى، وعاشوا كل طفولتهم وصباهم وردحا من شبابهم في فضاء مفتوح صاغ حيواتهم وشخصياتهم وكل مداركهم في طريق الممشى وكأنهم ولدوا سويا فصاروا وكأنهم ذاتا واحدة ما إن تفترق حتى تقترب.
اليوم أستذكر ولادة الممشى والمشاة في جنبات المخيم وكأنني غادرتها للتو، أستذكرها بكل ما في الذكرى والتذكر من حنين ، وقوة حضور وتأثير، وابتسم في سري وأقول: يا إلهي ان الممشى يحتاج لكتابة قصته التي لم تنتهي...