وقف جرائم إسرائيل واستمرار حماس في التضليل
نشرتُ سنة 2014 مقالاً عن تكرار مشهد المغامرة والمقامرة غير المحسوبة التي تنفرد بها حركة حماس في قطاع غزة بعنوان (كلاكيت ثالث مرة: غزة ومجاهدو التلفزة والمكسرات والمَزّة)، حيث انتحل العديدون من بعدها عبارة "كلاكيت ثالث مرة" حول غزّة وسطروا مقالات في اتجاهات مختلفة. المهم أن هذا المقال تناول بالتفصيل والتحليل كيف يريد جمهور الباحثين عن قشة تنقذهم من لجّة الفشل والإحباط الذي يعتري الأمة منذ قرون التشبث بها حتى وإن كانت هذه القشّة هي التي سوف تقصم ظهر البعير حتما.
قرارات السلم والحرب هي صنيعة إجماع شعبي وليست خيار حركة أو فصيل وفقاً لهواه ومصالحه، ومن باب أولى لا يمكن أن تكون وفق هوى أو مصالح حليفه أياً كان. إن قيام حركة حماس باتخاذ قرار الحرب متى شاءت وكيفما تراءى لها أو أوحي إليها به من حليف إقليمي، لهو تعبير عن طبيعة حكمها الذي استبد بالقطاع وانفرد به وبأهله، ليكون آخر ما تفكر فيه هو نتائج هكذا قرارات على المديات القصيرة والمتوسطة والطويلة. وقد تكرر مشهد قرار المقامرة بشن الحرب دون حسابات قبل وبعد نشري لذلك المقال مرات عدة، لكن كان السابع من أكتوبر أكثرها إيلاماً وتعبيراً عن التفرد والاستبداد باتخاذ القرار.
قام البعض في إسرائيل بمراجعات لما حدث في السابع من أكتوبر وبدأت الاستقالات من بعض كبار قادتها العسكريين تتوالى اعترافاً منهم بالمسؤولية عمّا اعتبروه "تقصيراً في منع ما قامت به حماس"، ليثور السؤال البديهي حول ما إذا كانت حماس قد تقوم بالشيء نفسه في الاتجاه المقابل، بحيث تجري مراجعات شفافة حول قرارها بالتحول من حالة المقاومة إلى حالة الحرب مطلع أكتوبر 2023 دون إنفاق على خطط طوارئ أو تأمين للمدنيين ضد الرد الوحشي المحتمل. المدنيون الذين قال عنهم بلا مواربة موسى أبو مرزوق قيادي حماس حينما سئل عن سبب عدم قيام حركته بحفر ملاجئ لهم أسوةً بما تقوم به من حفر أنفاق لمقاتليها، أنهم “سكان غزّة 75% منهم لاجئون يقع واجب حمايتهم على المجتمع الدولي وسلطات الاحتلال بموجب اتفاقيات جنيف، أما الأنفاق فهي لحماية مقاتلي حماس من طائرات العدو”! https://www.youtube.com/watch?v=jw0nUKFf8Vk
واقع الأمر أنه لا يمكن أن تقوم حركة حماس بمثل هذه المراجعات والاعتذار لشعب غزّة عن سوء التقدير للعواقب وعدم الاستعداد لها ولو بالحدود الدنيا، انطلاقاً مما تراه من أمر بل تفويض إلاهي حصري لها ولمثيلاتها من حركات الجهاد والتطرف الديني المسيطرة سياسياً وعسكرياً باتخاذ قرارات الحرب والسلم والإقدام أو الإحجام والمقاومة والمهادنة.. حسب الهوى والمصلحة الفصائلية وليس الشعبية.
في الاتجاه نفسه، فإن ثقافة تطويع المفاهيم والمسلمات والقيم من سمات المجتمعات الإسلامية المتأصلة منذ قرون. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي نعيش فيه في ظل حكومات ومنظمات ونشطاء يزعمون أنهم يؤمنون بحقوق الإنسان كما جاءت في مواثيقها الأممية، نجد أن هذه الحكومات نفسها و اولئك النشطاء عينهم يبرعون في تبرير كل ما ينطوي عليه التراث المتناقل من ممارسات تمثل جرائم ضد الأفراد والمجتمع والإنسانية، وذلك من خلال البحث عن مبررات مضللة وواهية تندرج ضمن "مقتضيات السياق الزماني والمكاني، أو مقتضيات ترويض المجتمع الصحراوي الذي شهد بواكير الدعوة"، وذلك بحجة أن تلك الأفعال والممارسات المشينة التي اكتسبت صبغة الأخلاق بل القداسة لها «حكمة تعجز عقول البشر القاصرة عن إدراكها». ولا أدل على ذلك من تمجيد وتقديس جرائم الحرب التي ارتكبها أسلافنا في كل بلد آمن قاموا بغزوه فاختطفوا أطفاله ونسائه وباعوهم سلعةً رخيصةً في الأسواق أو اغتصبوهم لسنين لأنهم «ملك يمين»، هذا بخلاف القصص الموثقة من رواتها عن قتل للخصوم بالحرق والصلب والسحل.. فهذه الأفعال تشكل أبشع ما يمكن تخيله من جرائم حرب وإبادة، ومع ذلك، تُدَرَّس حتى اليوم لطلبة المدارس ويتم إنتاج الأعمال الدرامية حولها ويصيح الوعّاظ في دور العبادة تمجيداً لها وتقديسا.
إذن حينما يختار فرد أو مجموعة أو شعب بأسره تطويع وقائع معينة وتشكيلها على هواه وتلبيسها ثوب الجهاد أو النضال حتى وإن كانت تلك الوقائع في حقيقتها تجسّد الانتهازية السياسية والاستبداد بالسلطة والمغامرة بمصائر وأرواح مئات الألوف من البشر، يغدو المشهد مقلوباً والمنطق في غياهب النسيان. فثقافة تطويع الواقع والمفاهيم والمبادئ هذه وتفصيلها بمقاسات تريحنا؛ هي ما يفسر استقبال عموم المجتمعات الإسلامية وبعض النشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية لوقف إطلاق النار في غزة بأنه "نصر وانتصار وصمود"، لتتراجع مشاهد الدمار وفقد أكثر من 60 ألف إنسان وإصابة أكثر من 120 ألفاً وضياع حاضر الأطفال وضبابية مستقبلهم.. إلى خلفية الصورة ليصبح هذا الواقع الحقيقي الكارثي مجرد جملة تأتي بعد أدوات الاستثناء، فتجد المُطَوَّعين يقولون: «انتصرت المقاومة.. انهزم العدو.. انتصرت غزة..." ثم يتداركون فيقولون:" صحيح أن هناك ثمن باهظ دفعه أهل غزة لكن..»، ثم عوداً على بدء قائلين: «لكن الواقع والحقيقة هي أن غزة وأهلها ومقاومتها انتصروا".
في الحروب السابقة على قطاع غزة لم تكن الطائفة «المستنصرة هذه» بحاجة لتقديم تعاريف جديدة للنصر والانتصار والصمود، لأن الثمن من وجهة نظرها في حينها لم يكن باهظاً، فقتل بضع مئات من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ وبضع عشرات المنازل المهدمة يمكن تجاوزه ولا يعكر الاحتفال بالنصر، أما مع حرب الإبادة التي استمرت ل15 شهرا، فإن هؤلاء المغيّبون وجدوا أنفسهم مضطرين لإيجاد تعاريف وتفسير للمعرّف والمفسّر، وذلك ليستروا عورتهم الأخلاقية إذ هم يبتهجون على خلفية مشاهد الإبادة وسحق أسباب الحياة التي لم يشهد لها العالم نظيراً في تاريخه المعاصر. فتراهم يقولون لك: ما هو النصر؟ النصر هو كسر إرادة العدو. فإسرائيل كان غرضها القضاء على حركة حماس، وانظر كيف رأينا مقاتلي حماس في زيهم العسكري وأسلحتهم وحولهم المئات يحتفلون خلال تسليم الرهائن، إذن فعدم تحقيق إسرائيل لهدفها المعلن بالقضاء على حماس هو انتصار حتى وإن أزهقت عشرات ألوف الأرواح ودمرت 70% على الأقل من مباني قطاع غزة، وكذلك فإن بقاء من بقي على قيد الحياة ونجى من آلة القتل الإسرائيلية حتى وإن نزح وتشرد وفقد أفراد أسرته وهدم بيته.. هو صمود!
الفلسطينيون يستحقون الحياة وليس الموت، ولو كان لدى حماس وقادتها شعور وإحساسيُرتَجى، لخجلوا من أنفسهم وهم يستعرضون قوتهم وتحت أقدامهم رفاة عشرات الألوف ممن قضوا ظلماً وفقدوا ولقدموا اعتذاراً بالحد الأدنى لسكان قطاع غزة المختطف، لكن هيهات، فعوضاً عن ذلك، أخذ مسؤولوهم يطالبون دول العالم بإعمار القطاع، وليتهم يحددوا موعد مقامرتهم ومغامرتهم التالية ويخبروا أهل غزّة والمانحين بها.
الفلسطينيون يستحقون الحياة وليس الموت، وحينما اجترح هذا الشعب العظيم أول نضال فريد من نوعه بانتفاضته الأولى التي توافقت مكوناته على ألا يستخدم فيها السلاح لحسابات منطقية قاست الواقع وحللته ودرس نتائج كل خيار واختيار بعمق شديد، لتكون نتيجة ذلك استيقاظ لضمير العالم في حينه وانتزاع اعتراف رسمي بمنظمة التحرير ونفض الغبار عن قرارات مجلس الأمن 242 و338، حينها لم ينتظر أحد حماس ولا غيرها ليقول لأهل النضال الحقيقيين ماذا يفعلون. تحتاج فلسطين لمن ينشد شعر محمود درويش وينذر نفسه وعلمه وماله لها.
تحتاج غزة لحكماء وأهل كفاءة يديرون شؤونها بعد حرب الإبادة، وتحتاج أن تلفظ كل من تاجر بها وبأهلها وأنفق مئات الملايين التي تدفقت من إيران وقطر على بنية عسكرية لا تقيم أود مقاومة مسلحة فضلاً عن أن تصلح لخوض حرب يتوفر فيها الحد الأدنى من خدمات الحماية والطوارئ والإغاثة للمدنيين. استبدت نرجسية حماس بوصفها حركة أصولية فقررت أن تتحول من حركة مقاومة إلى جيش محارب، دون وجود مقومات الجيش لديها ودون حسابات نفسية وعسكرية وسياسية لردة الفعل على ما قامت به، لتكون النتيجة جرّ غزة إلى أبشع مجزرة جماعية عرفها البشر في تاريخهم المعاصر، ثم يخرج علينا ممثلوها ومحللوها العسكريون المرابطين على شاشات القنوات الفضائية الداعمة للتطرف الديني ليضللوا شعوباً تعشق تكذيب الواقع وإعادة صياغته على هواها، فيحدثوننا عن «الحروب غير المتناظرة.. والمسافة صفر.. والنصر الذي لا يشترط فيه هزيمة العدو»!
هذا التفكير والتخطيط البائس من قبل حركة حماس وما نجم عنه من كارثة سيمتد أثرها الواقعي والسياسي لعقود وسوف يطال ليس فقط قطاع غزة بل الضفة والقضية الفلسطينية برمتها، يشير إلى حتمية خروج هذه الحركة من كامل المشهد وتفاصيله وترك المجال لإدارة تكنوقراط وطنية مخلصة متجردة من الأجندات السياسية والإيديولوجية المنحازة.
توقفت جريمة الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل ليستمر نفاق حماس السياسي وتضليلها لأهل غزة والمجتمعات الإسلامية والعربية والعالم في تطويع المفاهيم والمبادئ وتلبيس الواقع ثوباً يعجب الجمهور ويعزفعلى الوتر الذي يطربه.
*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب