وباء ديسيدوفوبيا أشد خطراً من كورونا
«Decidophobia. رهاب اتخاذ القرار»، اضطراب تحدث عنه لأول مرة بهذا المسمى الفيلسوف الألماني المعاصر والتر كوفمان في كتابه «بدون ذنب ولا عدالة، من رهاب اتخاذ القرار إلى الاستقلالية الفردية». هذا الاضطراب يجعل صاحبه غير قادر على اتخاذ قرار بسبب جموح الخوف من عواقبه المحتملة كما يتصورها هو، وربما وبعبارة أدق في سياق هذا المقال: الخوف من احتمالات المساءلة والمحاسبة.
يقول الاختصاصيون أن سبب هذا الاضطراب غالباً ما يعود إلى نمط الحياة الذي ينزع دائماً نحو الاحتماء خلف سلوكيات روتينية تتوخى السلامة والأمان كما يراها صاحبها، وقد يعود أيضاً لتجارب سلبية مر بها الشخص وأثرت عليه عاطفياً وجعلته يُرَوَّع من فكرة اتخاذ أي قرار. وقد عبرت سيدة أمريكا الأولى سابقاً مشيل أوباما زوجة الرئيس السابق باراك أوباما عن فحوى هذا الرهاب بعبارات بسيطة حينما قالت: «You can't make decisions based on fear and the possibility of what might happen. لا يمكنك اتخاذ القرارات بناءً على المخاوف واحتمال ما قد يحدث”.
«رهاب اتخاذ القرار» قد يتحول من مجرد اضطراب إلى أزمة حقيقية أخطر من أزمة كورونا حينما يتحور من نسخته الفردية إلى نسخة مؤسسية تصيب الجهات المسؤولة عن إدارة قطاعات الدولة الحيوية، إذ يغدو المواطن رهيناً لمدى جسارة الإدارة على اتخاذ قرار موضوعي غير خاضع للخوف المرضي من نتائجه واحتمال المساءلة عنها.
اتسمت إدارة أزمة جائحة كورونا وما تزال «بالرهاب المؤسسي في اتخاذ القرار» الذي تجلى منذ اللحظة الأولى باستنساخ قرارات اتخذتها دول أخرى أدت إلى انخفاض عدد الإصابات بشكل كبير لكنه مؤقت وقصير، دون أن يبادر أحد إلى اتخاذ قرار ذاتي ونوعي أو على الأقل تبني نهج مختلف اعتمدته دول أخرى مثل السويد التي قررت منذ بداية الجائحة أنها لن تتبنى الإغلاق لا بشكله الجزئي ولا الشامل أداةً للحد من انتشار الفيروس، معللةً ذلك بأن «الإغلاق بأشكاله كافة يؤجل انتشار العدوى بأثمان اقتصادية واجتماعية ونفسية وحقوقية باهظة، ليعود الفيروس فينتشر بمجرد رفع الحظر لكن في سياق تكون قد تراكمت فيه الأضرار بسبب تلك الأثمان مما يعظم من الخسائر ويعمق الأزمة على المدى المتوسط والبعيد».
اختيار الحل «الأسلم والأأمن» كما يراه المسؤولون الذين يقيسون ويقيّمون بمعادلة «احتمالات المساءلة» هو بعينه أحد أبرز سمات اضطراب «رهاب اتخاذ القرار» الذي يدفع صاحبه إلى الاختباء خلف الآخرين والاحتماء بما قرروه وفعلوه حتى لو كانت قراراتهم غير دقيقة طالما كانت اللائمة ستلقى عليهم عند حدوث أي إخفاق، وهذا ما اعتاد كثيرون ترديده عندنا حينما يصرحون: «لقد قمنا بما قامت به دول أخرى، وما نقوم به ليس من ابتكارنا وإنما هو أمر مطبق في تلك الدول..».
«رهاب اتخاذ القرار المؤسسي» قد يدفع أيضاً إلى الإصرار على تبني قرارات تبين فشلها لمجرد أن دول أخرى اتخذتها ثم تبرير الإخفاق بمنطق فرق كرة القدم المدرسية، حيث يدفع كل لاعب في الفريق المهزوم اللائمة عن نفسه بادعائه أنه: «لولا أداؤه وعبقريته لكانت النتيجة 10-0 بدلاً من 7-0»، لذلك اعتادت كل مؤسسة من مؤسسات الدولة تبرير ما تسببت به من إضرار بمصالح المواطنين بسبب قرارها الفردي بالإغلاق أو التعطيل أو التأجيل أو تقديم الخدمة عن بعد –وهي التي يرثى لها عن قرب- بأن تحمل الوطن والمواطن «جميل ومعروف لأنها ما سَطَحَت المواطن إلا لتُسَطِّح المنحنى».
لا شك أن الوباء المستجد أوقع دول العالم كفة في إرباك إداري وصحي وأزمة اقتصادية خانقة، لكن المؤكد أن الدول التي تتخذ قراراتها بناءً على مؤشرات وتحليل بيانات ودراسة النتائج والعواقب المحتملة على مختلف الصعد؛ استفادت من الأخطاء التي وقعت فيها منذ بداية الجائحة وعمدت إلى تبني منهجية شمولية في اتخاذ أي قرار من شأنه الحد من أي حق أو حرية أو تقييد ممارستهما أو أي تدبير يعيق أو يؤجل تقديم خدمة أساسية للمواطنين.
لم يكن علينا بالضرورة اختيار النموذج السويدي في إدارة الأزمة، فربما لو حدث ذلك لقامت قيامة الناس حينها على الدولة ومؤسساتها، حيث كان الخوف من الوباء الغامض له مفعول المنوم المغناطيسي، فأسلم الكل زمام أمره لأولي أمره ، وكان الجميع مندفع نحو التمترس خلف الاختباء والاختفاء باعتبار ذلك الحل الأسلم، ومن المؤكد أن لو كانت الحكومة قد قررت تبني سياسة غير سياسة الإغلاق للامتها جموع المواطنين ولاتهموها وقتها «بالرعونة وعدم المسؤولية والاستخفاف بأرواح المواطنين»، كيف لا وقد صفق الجميع بمن فيهم بعض الإعلاميين لقرار توقيف مالك قناة تلفزيونية ومقدم برامج أثناء الحظر الشامل فقط بسبب نقل صرخة مواطن تردى وضعه المعيشي بسبب انقطاع رزقه! فلم يكن في تلك الأيام –لا أعادها الله- صوت يعلو على صوت صافرات الإنذار والبيان الرسمي المسائي اليومي الذي أظهر مواهب فنية لدى البعض وغذى ميول استبدادية أبوية لدى آخرين ممن استمرؤوا التهديد والوعيد الجماعي للمواطنين.
في المقابل، لم يكن من الصواب ترك «وباء رهاب اتخاذ القرار المؤسسي» يتفشى وأن يتم استنساخ القرارات بناءً على مدى شعبويتها وتماهي المواطنين معها، إذ أن مسؤولية صانع القرار اتخاذ ما يحقق المصلحة للوطن والمواطن على المدى المتوسط والبعيد بعيداً عن ردات الفعل حتى وإن جابهته الجماهير بشيء من التذمر وعدم الرضى، فالحكومات الرشيدة التي تستند في قراراتها إلى الحكمة والحوكمة هي الأقدر على تقدير الموقف لأنها تملك أدوات تقييم الواقع واستقراء مستقبل أثر القرار المتخذ.
بعد أن كنا في مباراة مع الفيروس أول ظهوره وكان مسعانا التعادل معه بحيث تظل شباكنا نظيفةً دون أن تسجل فيها أي إصابة، فكانت الصحف والمواقع الألكترونية وكل من في البلد باستثناء الخبراء والعلماء الحقيقيين أولي الختصاص؛ يحتفلون بمتتالية الأصفار، أصبح الآن المعيار المعلن لتحديد درجة الخطورة هو نسبة إشغال أسرّة المستشفيات، ومع ذلك، فإن معظم المؤسسات في الدولة لا تلقي بالاً لهذا المعيار وتجتر قرارات زمن فات رهاباً واضطراباً واجتهادا؛ إن أصابوا فيه فلهم أجران وإن أخطأوا فعلينا العاقبة ولنا الله.
أزمة كورونا ستنتهي ولو بعد حين لتصبح ماضي وتاريخ، لكن وباء «رهاب اتخاذ القرار المؤسسي» أتراه إلى زوال أم سيستمر في الانتقال وتتوارثه في ما بينها الأجيال؟