هل ستفجّر الخطة الأميركية الوضع في فلسطين؟

الرابط المختصر

حين دعت مجموعة عرين الأسود ليلة الـ23 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) إلى تظاهرة عند منتصف الليل في نابلس، لبّى الفلسطينيون، في مؤشّر واضح على شعبية "العرين"، وعمق الحاضنة الشعبية للتشكيلات المسلحة الجديدة التي تقود أعمال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية والقدس المحتلة وقراهما.

التفاعل اللافت الذي برزت قوته منذ الإعلان عن كتيبة جنين وعرين الأسود وكتيبة طولكرم التي خرجت إلى الساحة أخيراً يجعل من أي خطة أميركية، لاستهداف هذه المجموعات، قنبلة تفجير واسع، لأن واشنطن لا تفهم معنى أن تكون لها حاضنة شعبية، وتأييد حتى في أوساط جهاز الأمن الفلسطيني وأفراده.

لم يعد سرّاً أن أفراداً من الأمن الفلسطيني سارعوا إلى الدفاع عن نابلس و"عرين الأسود" خلال كل اجتياحات الجيش الإسرائيلي المدينة، وأن قيادات من "كتائب الأقصى" التابعة لحركة فتح، بغض النظر عن موقف قيادة الحركة، تحمي "عرين الأسود"، حتى لو تطلب الأمر المواجهة مع السلطة وقيادة الأمن الفلسطيني. لذا، تلجأ إسرائيل إلى ارتكاب مجازر واغتيالات، وتوظف المستوطنين لحرق البيوت، كما حدث الأحد الماضي (26/ 2/ 2023) في حوّارة قرب نابلس، لكنّ هذا ما لا تريده الإدارة الأميركية، خصوصاً أنّ بشاعة الاعتداءات الإسرائيلية ووحشيتها تؤكّدان صورة إسرائيل قوة عنصرية محتلة، وتؤكّد صورة الفلسطينيين شعبا مقاوما يدافع عن نفسه، ويناضل من أجل حريته. ولذلك، جاءت الخطة الأميركية، التي وضعها الجنرال مايكل فنزل، لجعل قوات أمن السلطة تتولى أمر القضاء على المجموعات الجديدة، التي، وإن كانت قد جاءت من رحم التنظيمات، وبالأخص حركات فتح والجهاد الإسلامي وحماس، إلا أنها لا تخضع لأوامر أو توجهات أيٍّ من قيادات هذه التنظيمات.

ترى واشنطن أنّ السلطة فشلت في مهمتها، ولكن ترك الأمر للجيش الإسرائيلي يسبّب ضررا أكبر على سمعة إسرائيل، ويهدّد بتقويض أي تأييد عربي لعمليات التطبيع الإسرائيلية - العربية التي هي عماد الاستراتيجية الأميركية لفرض تسويةٍ لا تعترف بكامل حقوق الفلسطينيين، ولا تنهي سيطرة إسرائيل على الأرض الفلسطينية. ولكن، مهما كان حجم تجربة الجنرال مايكل فينزل، الذي شارك في احتلال العراق، إلا أنها قد لا تجعله يفهم أن ليس من السهل بعد سنوات النضال والتضحيات الفلسطينية للتحرّر والحرية، أن محاولة "تحويل" المقاومين في نظر شعبهم إلى "عصابات إجرامية" لن تنجح، وأن خضوع السلطة الفلسطينية للتنسيق الأمني مع إسرائيل لم يحقّق منجزا واحدا للشعب الفلسطيني، وأنّ التطرف الصهيوني، حتى قبل صعود أقصى اليمين إلى الحكم في إسرائيل، قد أفقد الفلسطينيين أي ثقةٍ يمكن أن تتبقى في مفاوضات "سلام مزيّفة"، وفي صدقية أميركا التي ما فتئت تلعب دور الحامي والمموّل العسكري الأكبر للاحتلال الإسرائيلي.

المشكلة في غضب المسؤولين الأميركيين، حتى لو كان حقيقياً، أنهم أنفسهم ساهموا في تمكين المستوطنين والمتطرّفين

الجديد أن كل محاولات إدارة الرئيس جو بايدن لـ"تهدئة إسرائيل"، والتأثير على "حكومات التطرّف"، قد أثبتت فشلها، فواشنطن لا تمارس ضغطاً رادعاً، ولا تهديداً بوقف المساعدات، وهو ما جعل الحكومة الإسرائيلية تزداد وقاحةً وشراسة، إلى درجة أن يجهر وزراؤها بالدعوة إلى محو الفلسطينيين، وإلى تهديد وزير المالية ممثل "الصهيونية الدينية"، بتسليئيل سموتريتش، بإبادة بلدة حوّارة، وإعادة سيناريو النكبة وما تخلّلها من مجازر واقتلاع وتشريد للشعب الفلسطيني. ويحاول زعيم المستوطنين بن غفير، بصفته وزيرا للشرطة، ترهيب الخليل، وفلسطينيي الداخل (عرب الـ48)، وتحويل الشرطة أداة للمستوطنين في خنق المدن الفلسطينية، ليس في نابلس والخليل فقط، وإنما أيضاً في حيفا ويافا والجليل.

صدمت صفاقة المسؤولين الإسرائيليين حتى الخارجية الأميركية، فرأينا تصريحات نادرة تدين وبقوة هجوم المستوطنين على بلدة حوّارة، من قِبل مسؤول مكتب فلسطين في الخارجية الأميركية، هادي عمرو، وهو مكتب استحدث قبل أشهر، بل زار حوّارة، مندّدا بـ"الهجمات الشنيعة" ومطالباً بمحاكمة مرتكبيها، ولم يسلم هو نفسه من محاولة المستوطنين الاعتداء عليه وسط البلدة، غير مكترثين بموقعه الرسمي، فحكومة بنيامين نتانياهو الذي يشارك المتطرّفين طموحاتهم، وإن كان أكثر براغماتية، مكّنت المستوطنين من إطلاق حقدهم، ليس على حوّارة وحدها، بل إنهم فهموا أن إسرائيل دخلت مرحلة متقدّمة من تنفيذ المشروع الصهيوني لإنهاء حقوق الفلسطينيين.

المشكلة في غضب المسؤولين الأميركيين، حتى لو كان حقيقياً، أنهم أنفسهم ساهموا في تمكين المستوطنين والمتطرّفين، ليس فقط بدعم واشنطن الاستراتيجي إسرائيل، وإنما في تعطيل قرار قدّمته الإمارات، مهما كانت دوافعها، بإدانة المستوطنات وتوسيعها، وبتواطؤ من السلطة الفلسطينية التي رضخت لمطالبة وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، بسحب المشروع مقابل تعهداتٍ واهيةٍ بوقف الاقتحامات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية، وتجميد بناء المستوطنات والاعتراف "القانوني" أي من المؤسسات القانونية الإسرائيلية بالبؤر الاستيطانية الخارجة عن كتل المستوطنات الكبرى.

ربما قبلت السلطة الفلسطينية الخطة الأمنية الأميركية، لتثبيت دورها الوظيفي، لكن الوضع تغير؛ فهناك واقع فرضته المجموعات المقاومة

جرى تبديل مشروع القرار الذي حاولت أميركا أن تتجنب استخدام "الفيتو" ضده بأن أجهضته، بإعلان من رئيس مجلس الأمن يدعو إلى وقف الاستيطان، ويصفه بأنه "عقبة في وجه السلام"، وهي الكلمات التي تحب أن تستعملها الإدارات الأميركية في السنوات الأخيرة، حتى تمنع إدانة الاستيطان بأنه غير قانوني، ويخالف مقرّرات مجلس الأمن واتفاقية جنيف الرابعة، وفي ذلك حماية لإسرائيل، فالإدارة الأميركية تفكّر في دولة إسرائيل ومصلحتها، بغضّ النظر عن اختلافها وخلافها مع الحكومة الحالية.

ثم جاء اجتماع العقبة، بمشاركة السلطة الفلسطينية، رغم احتجاجات ومعارضة حتى من داخل حركة فتح، وانتهى ببيان يؤكّد تجميد الاستيطان، ليتبعه إعلان وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين، ووزير المالية سموترتش، المعروف بخطّته لتوسيع الاستيطان وتهجير الفلسطينيين، بالنفي القاطع وعدم الالتزام، بل لم تمض ساعات قلية بعد انتهاء لقاء العقبة ليرتكب المستوطنون جريمة حوّارة التي تذكّرنا بـ"البوغرومس"، وهو تعبير روسي يشير إلى المذابح ضد اليهود في روسيا القيصرية. وكان في هذا إحراج للإدارة الأميركية، لكنّ موقف واشنطن الاستراتيجي يتلخص في محاولة فرض خطة أمنية للخلاص من المقاومين الفلسطينيين، وإحباط روح المقاومة عند جميع الفلسطينيين ودفعهم إلى الاستسلام، لفرض التخلي عن حقوق الشعب الفلسطيني القانونية والتاريخية، باسم "السلام"، فنظرة واشنطن لم تتغيّر كثيراً، وجوهرها أن القضية الفلسطينية أمنية، وأن الفلسطينيين يشكّلون خطراً أمنياً لمجرد التمسّك بحقوقهم والنضال من أجل حريتهم.

ربما قبلت السلطة الفلسطينية الخطة الأمنية، لتثبيت دورها الوظيفي، لكنّ الوضع هذه المرّة تغير؛ فهناك واقعٌ فرضته المجموعات المقاومة، وحالة النهوض الشعبي، التي أثّرت وتؤثر على كوادر حركة فتح والسلطة، أن الحكومة التي تمثل أقصى اليمين لا ترى حلاً بغير الخلاص من كلّ الفلسطينيين. فلذلك، على الجنرال فنزل أن يعرف أن تنفيذ خطته، أو البدء به، قد يعني اقتتالاً حتى داخل "فتح" نفسها وداخل الأجهزة الأمنية، وقد يفاجأ الجنرال بأنّ أفراد الأمن قد أصبحوا جزءاً من الحاضنة الاجتماعية للحراك المقاوم، وسيجد أن خطته ستدفع إلى انفجارٍ في كل فلسطين، فكل فلسطيني يشعر بخطر وجودي، وبأن لا مناص عن المقاومة للدفاع عن وجوده، شاء الجنرال وواشنطن أم لم يشآ.

أضف تعليقك