في فبراير/شباط 1982، نشر الدبلوماسي والصحفي الإسرائيلي عوديد ينون مقالاً في المجلة العبرية كيفونيم تحت عنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات".
ما بدا حينها ورقة فكرية داخلية موجّهة للنخبة السياسية الإسرائيلية، تحوّل لاحقاً إلى مرجع مثير للجدل في النقاشات الأكاديمية والسياسية حول مستقبل الشرق الأوسط. فقد طرح ينون رؤية تقوم على أن العالم العربي، بصورته التي صاغتها القوى الاستعمارية في أوائل القرن العشرين، هشّ ومؤقت، وأن تفكيكه إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة يمثل مصلحة إسرائيلية استراتيجية بعيدة المدى، إذ يضمن لها التفوق العسكري والسياسي ويمنع نشوء أي تهديد إقليمي متماسك.
ينون لم يخفِ اعتقاده بأن الدول المحيطة بإسرائيل ليست سوى "بيت من ورق" سينهار عند أول اختبار حقيقي، وأن اللحظة المناسبة بالنسبة لإسرائيل هي تلك التي تنشغل فيها هذه الدول بصراعات داخلية لا تنتهي.
وقد رأى في لبنان نموذجاً مبكراً على ذلك، محذّراً من أن باقي الدول العربية، من مصر إلى العراق وسوريا والأردن، ليست بمنأى عن التفكك. على حد زعمه.
أما سوريا تحديداً، فقد اعتبرها المثال الأبرز لدولة مصطنعة بنيت على فسيفساء مذهبية وعرقية تضم العلويين والسنة والأكراد والمسيحيين والدروز، وكلها مكونات يمكن أن تتحول – وفق تصوره – إلى كيانات منفصلة إذا ما اندلع الصراع الداخلي.
اليوم، بعد مرور أكثر من أربعة عقود على نشر تلك المقالة، تبدو الحرب السورية وكأنها تفتح الباب واسعاً أمام هذه المقاربة.
فمنذ عام 2011، انزلقت سوريا إلى نزاع دموي متشعب أفضى إلى انهيار الدولة المركزية كما عرفها السوريون منذ الاستقلال. الخارطة السورية الحالية تكشف واقعاً شديد الشبه بما كتبه ينون: الشمال الشرقي يدار عملياً من قبل سلطة كردية مدعومة أميركياً، بينما يحتفظ النظام السوري بقبضته على مناطق الغرب بدعم من روسيا وإيران، في حين تسيطر فصائل معارضة مدعومة من تركيا على إدلب وأجزاء من الشمال الغربي. وفي الوقت نفسه، تحولت مناطق أخرى إلى ساحات نفوذ لقوى محلية ودولية، وسط حضور عابر لداعش قبل تراجعه العسكري. النتيجة أن سوريا، التي كانت ذات يوم لاعباً إقليمياً مؤثراً، أصبحت اليوم ساحة مفتوحة لصراعات النفوذ.
من السهل الوقوع في فخ تفسير هذه التحولات بوصفها تنفيذاً حرفياً لخطة ينون. لكن غير أن الواقع أكثر تعقيداً، إذ نشأت الحرب السورية أساساً من تفاعلات داخلية: احتجاجات شعبية قمعت بعنف، ثم عسكرة، فتدخلات إقليمية ودولية متشابكة. لكن ما يغذي الجدل هو أن المحصلة النهائية تتطابق بشكل لافت مع السيناريو الذي وصفه ينون قبل عقود. فالدولة السورية المركزية لم تعد قائمة بالمعنى التقليدي، والكيانات المحلية ذات الهوية المذهبية أو العرقية باتت واقعاً ملموساً، وإن لم يُعلَن رسمياً بعد.
من منظور إسرائيل، لا شك أن الوضع الحالي يحقق جانباً مهماً من أمنها الاستراتيجي. فسوريا التي كانت تشكل تهديداً عسكرياً تقليدياً لم تعد موجودة، وبدلاً منها هناك فسيفساء من القوى المتناحرة غير القادرة على الاتفاق أو التوحد. هذه الحقيقة وحدها تكفي لإثارة تساؤلات حول ما إذا كان ما يحدث اليوم هو صدفة تاريخية أم نتيجة مسار طويل من السياسات التي تنبأت بها – أو ربما ساهمت في تحفيزها – مقالة نشرت في مجلة إسرائيلية قبل أكثر من أربعين عاماً.
سواء اعتُبرت خطة ينون وثيقة استراتيجية سبقت زمانها أو مجرد نظرية وُظفت لاحقاً في سياق المؤامرات، فإن حضورها في النقاشات حول سوريا اليوم لا يمكن تجاهله.
فهي تمنح إطاراً تحليلياً لفهم كيف تحوّل النزاع السوري إلى حالة من التفكك المستمر، وكيف وجد المشروع الصهيوني التاريخي نفسه – ربما من دون جهد مباشر – في قلب مسار جيوسياسي يعيد رسم المنطقة على أسس طائفية وعرقية، تماماً كما تخيل ينون ذات يوم.












































