لم تنسَ الدولة الأردنية أطول إضراب للمعلمين والمعلمات قبل عام وانتهى بنصر مؤزر لهم، توج باتفاقية بين وزارة التربية ونقابة المعلمين حققت الكثير من مطالبهم.
هذا الإضراب ليس حدثا عابرا يمكن أن يُنسى من ذاكرة الجهات التي تصنع السياسات في الدولة، ولا يمكن القفز عنه لمرحلة جديدة، وعلاقة جديدة، فما حدث كرس نقابة المعلمين كقوة مجتمعية قادرة على فرض إرادتها حتى ولو عاكست السلطة ومرجعياتها المختلفة، وهذا أمر ليس هينا يمكن غفرانه أو التغاضي عنه.
لم تنتصر نقابة المعلمين في إضرابها من العام المنصرم لتعدادها الذي يفوق 100 ألف، وإنما نجحت لقدرتها على التأثير في حياة كل بيت في الأردن، ومُلخص القول في كل بيت طالب وطالبة، وإضراب المعلمين يُعيد خلط إيقاع الحياة لكل أسرة، عدا عن قناعة المجتمع أن المعلمين والمعلمات باتوا مسحوقين ومكانتهم تراجعت اجتماعيا.
كانت تجربة الإضراب للحكومة وأجهزة الدولة كابوسا مرعبا، لا تسمح مهما كانت الكلفة بتكراره؛ ولهذا فإنها وجدت في خطاب نائب نقيب المعلمين الذي لا يخلو من الاستعراض فرصة للتحشيد، واستخدمت كلامه وحديث آخرين من أعضاء مجلس نقابة المعلمين للتأشير على أجندات سياسية سعت لربطها بـ "الإخوان المسلمين".
نقابة المعلمين كُرست كقوة مجتمعية قادرة على فرض إرادتها حتى ولو عاكست السلطة ومرجعياتها
لم يُدر مجلس نقابة المعلمين معركته بحصافة وعقلانية، ولم يُطفئ النيران حين أُشعلت حوله، وطغى الخطاب السياسي مثل الدعوة لتحالف المسحوقين على شرح القضايا المطلبية، وتعمد إظهار نقابة المعلمين وكأنها تُغرد خارج السرب الوطني حين طالبت بالعلاوة التي أوقفت عن جميع موظفي الدولة في ظل تبعات جائحة كورونا، ولم تُبدِ تفهمها للظروف الاقتصادية الاستثنائية التي تمر بها البلاد، وكان الأحرى بمجلس نقابة المعلمين والأكثر جدوى أن يُعيد تسليط الضوء على مطالبهم الأخرى التي يعتقدون أن الحكومة تجاهلتها وغضت النظر عنها، عوضا عن خوض التحدي حول العلاوة، ودخول مكاسرة سياسية جعلت من أصدقائها يجفلون من ممارساتها وطريقتها في خوض معركتها النقابية.
لم يطل الانتظار طويلا، فالحراك التصعيدي والتلويح بالإضراب، إضافة لشكاوى قضائية وتحقيقات أسفرت عن قرارات للنائب العام بوقف النقابة عن العمل، وكف يد أعضاء المجلس، والهيئات المركزية، وتبعها قرارات للمدعين العاميين بتوقيف أعضاء مجلس النقابة في السجن.
لم أكن أتوقع أن تذهب الأزمة نحو هذا التصعيد السريع، وكنت أراهن وما زلت على عقل الدولة الراشد التي تخوض معاركها دون كسر للعظم، والواقع أن المشهد فاق التوقعات، وكأن الدولة تريد أن تقتلع الصداع الذي تسببه نقابة المعلمين لها من جذوره، أو كما يُقال في الأمثال الشعبية من "شروشه"، وكأنها نادمة وتكفر عن "خطيئة" الربيع العربي التي كانت سببا في ولادة النقابة وإشهارها بعد عقود من الرفض والإنكار تحت مبررات دستورية وقانونية وسياسية.
بعيدا عن الجدل في قانونية القرارات التي اتخذها النائب العام، فهذا في نهاية الأمر ستعاينه المحاكم، وتبت بها، ولكن المطروح إلى أين ستذهب الأزمة، وإلى أين ستصل تداعياتها، وهل كانت الدولة الأردنية تتوقع صمت المجتمع في ظل قانون الدفاع وأوامره، ومحاولات شيطنة نقابة المعلمين وتقديمها على أنها خارجة على الدولة وعاصية لأوامرها؟
باعتقادي لم يكن في خلد الحكومة أن تجد النقابة هذه الحالة من التضامن الشعبي، فالتعليمات بحظر التجمع التي أصدرتها وزارة الداخلية قُبيل عيد الأضحى لم تمنع المعلمين والمعلمات والمتضامنين معهم من الدعوة للاحتجاج مجددا عند دار رئاسة الوزراء على الدوار الرابع، ورغم كل الحشود الأمنية وقطع الطرق الخارجية فإن جموع المتظاهرين وصلت إلى دواوير عمّان بالقرب رئاسة الحكومة، وعبرت عن رفضها حل مجلس النقابة وتوقيف أعضائه.
نقابة المعلمين في تشخيص أصحاب القرار "قنبلة موقوتة" قد تنفجر في أي وقت
لم تنتهِ فصول الأزمة، فالاعتصام عند رئاسة الوزراء الذي منع بالقوة، تبعه احتجاجات طوال أيام العيد في المحافظات المختلفة بالأردن، مما يوحي بمعركة عض أصابع لن تحسمها الحكومة بسهولة، وربما تكون سببا للإطاحة بحكومة الرئيس عمر الرزاز إذا ما تعمقت الأزمة، أو تكون سببا في نجاته وبقاء الحكومة أكثر حتى تتعامل مع هذا الملف، باعتبار أن الرزاز كان وزيرا للتربية والتعليم قبل توليه رئاسة السلطة التنفيذية.
أيّا ما كانت النتيجة فإن المكاسرة بين السلطة السياسية ونقابة المعلمين ليست مرشحة أن تضع أوزارها قريبا، والتحركات للواسطة التي تسرب كلام عنها لن تجد موطئ قدم بسهولة حتى ولو كان يقودها شخصية وازنة وتحظى بالاحترام من مختلف الأطراف مثل رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، فالحلول مُستعصية، وإعدام الحكومة لنقابة المعلمين كسيناريو للخلاص من مخاوف المستقبل ليس نزهة عابرة، والجلوس على طاولة الحوار والمفاوضات يحتاج إلى تنازلات وتفاهمات تبدو صعبة المنال في الوقت الراهن.
غاب الإعلام المحلي عن متابعة قضية نقابة المعلمين بعدما أمر المدعي العام بحظر النشر، ولكن "صمت الإعلام" لم يوقف هدير السوشيل ميديا المناصر في غالبيته للمعلمين والمعلمات حتى تصدر وسم "أطلقوا سراح المعلمين" على منصات التواصل الاجتماعي، والقيود الصارمة لم تمنع العديد من المؤسسات الحقوقية الدولية لأن تُصدر تقارير تُدين الإجراءات التي اتخذت بحق النقابة وأعضائها.
المركز الوطني لحقوق الإنسان في أول تعليق له على ما حدث دعا إلى التمسك بمبدأ سيادة القانون، وعدم التوسع في استخدام النصوص الفضفاضة لاتخاذ قرارات عقابية دون محاكمة عادلة، ودون الرجوع إلى القضاء المُختص.
ولم تغب هيومن رايتس ووتش عن المشهد، فقال مايكل بيج نائب مدير قسم الشرق الأوسط إن "إغلاق النقابات العمالية المستقلة في الأردن عقب نزاع طويل مع الحكومة يُثير مخاوف جدية بشأن احترام الحكومة لسيادة القانون"، وقبلها كان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قد أصدر تقريرا موسعا تحت عنوان "معلمو الأردن حلقة أخرى في مسلسل وأد الحريات".
لم يُدر مجلس نقابة المعلمين معركته بحصافة وعقلانية ولم يطفئ النيران حين أُشعلت حولهم
كلما زاد الضغط الشعبي في الشارع كلما تورطت الحكومة بالأزمة أكثر، وبدأت في البحث عن مخرج وحلول، وكلما بقيت القضية حاضرة وتجد التضامن المجتمعي، كلما تعجل وسارع متخذو القرار بالدولة لوضع حد لتصاعدها حتى لا تقترن بأزمة اقتصادية كامنة، ولا تكون مقدمة وتوطئة ومبررا لحراك سياسي اجتماعي غاضب على ما آلت إليه الأوضاع الحياتية والمعيشية في الأردن، وفقدان الأمل بإصلاح سياسي مُحتمل ونحن على أبواب انتخابات برلمانية في العاشر من نوفمبر القادم، وأسهل شعارات للمعارضة الدعوة لمقاطعتها.
صعدوا إلى أعلى الشجرة والنزول عنها ليس سهلا، فنقابة المعلمين في تشخيص أصحاب القرار "قنبلة موقوتة" قد تنفجر في أي وقت، ولهذا فإن الهاجس الذي يُسيطر عليهم كيف يمكن إغلاق هذا الملف وإلى الأبد؟
التعايش مع نقابة المعلمين بعد إضراب عام 2019 يبدو عليه "فيتو"، وتدجينها لتسير في الركب ليس مضمونا ومأمونا، واقتلاعها والقضاء عليها قد يتسبب في مواجهات مُكلفة في ظروف بالغة الحساسية والتعقيد.
يقولون لن تعدم السلطة وسيلة لإيجاد مخرج للأزمة، والكرة الآن في ملعب القضاء، وعلينا أن نتذكر أن المحكمة الدستورية قد يُلجأ لها ليكون رأيها حاسما في ملف يُقلق مضاجع الدولة، ويظل الأمل والرهان أن يجد العقلاء حلا مُنصفا يحمي البلاد ومُنجزها، فالأردن ثابت يعلو فوق الجميع.
*موقع الحرة